هل"الإسلام المعتدل" وصفة أميركية؟الخميس 19/1/2006 محمد ابو رمان- "الغد" الاردنية
ثمة خطاب فكري وسياسي عربي، يصدر في أغلبه من معاقل العلمانيين واليساريين العرب، ينظر بعين الريبة والاتهام إلى مفهوم "الإسلام المعتدل" بدعوى أنّ هذا المفهوم أصبح اسما حركيا تستخدمه الإدارة الأميركية لتفريغ الإسلام من محتواه النضالي والجهادي، وللانقلاب على الحركات الإسلامية المقاتلة، بافتعال حروب داخل النشاط الإسلامي، تتولى فيها التيارات الإسلامية المعتدلة الحرب، بالوكالة عن الولايات المتحدة، على التيار الإسلامي المتشدد، وتكون محصلة ذلك خدمة المصالح الأميركية في المنطقة. وفي الوقت الذي تشهد فيه بعض الدراسات والرؤى الصادرة عن مراكز الخبرة والتخطيط الأميركية لهذه الدعوى، كدراسة راند "الإسلام المدني الديمقراطي"، التي توصي بدعم الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين العرب لمواجهة الإسلام الراديكالي. إلا أنّ ذلك لا يعني الانسياق وراء هذه القراءة المختزلة لنجعل قيم الاعتدال والوسطية والعقلانية في الإسلام وكأنها "وصفة غربية" دخيلة على المجتمعات العربية والمسلمة، ونجعل – في المقابل- التطرف والتشدد بمثابة الأصل والجوهر العام الذي يصبغ أحكام الإسلام وتشريعاته! بالتأكيد هناك دعاوى أميركية لخلق صيغة من الإسلام المهجن الوديع، لا يتناقض مع المصالح الأميركية في المنطقة العربية. لكن هذه الصيغة المطروحة تتناقض مع منطق الإسلام ذاته أولاً، ولن يكتسب أي تيار إسلامي، أيا كانت توجهاته، يقبل بالصيغة الأميركية أي دور اجتماعي فاعل ثانياً. والموضوع، من ناحية أخرى، لا يرتبط بطبيعة الخطاب الإسلامي بقدر ما يرتبط بمصالح سياسية على أرض الواقع، تحكم بدرجة رئيسة طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والحركات الإسلامية وغيرها من القوى العربية أينما وجدت. إذ يمكن أن تتحالف الإدارة الأميركية مع أكثر التيارات الإسلامية تشددا وتطرفا إذا كانت مصالحها تقتضي ذلك، ويمكن أن تعادي أكثر التيارات الإسلامية اعتدالا وفقا لاعتبار المصالح. ولماذا نذهب بعيدا فلدينا أمثلة ملموسة واضحة؛ فتقرير مؤسسة راند ذاته دعا إلى استخدام "الإسلام التقليدي" في مواجهة "الإسلام الثوري"، ومن المعروف أن الإسلام التقليدي يمثل حالة من الانغلاق ورفض الاجتهاد والتجديد العقلاني في الرؤى والتشريعات الإسلامية. كما تعتمد الحكومات العربية على اتجاهات تقليدية متعصبة في مواجهة الإسلام العقلاني المعتدل. حتى "الجهاد الأفغاني" فقد تم توظيفه - بامتياز- من قبل الولايات المتحدة والحكومات العربية المحافظة في مواجهة الاتحاد السوفيتي والحكومة الموالية لموسكو في أفغانستان، ولما انتهت وظيفته جعلوا منه مصدر تهديد ليخدم مصالح أميركية أيضا! وفي الوقت الذي رفض فيه البرلمان التركي، الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية المعتدل جدا، أن يسمح للقوات الأميركية بالانطلاق من الأراضي التركية في حرب العراق الأخيرة، فإنّ "قوى اسلامية شيعية" ساهمت، وهي جد متشددة مقارنة بالعدالة والتنمية، باحتلال العراق وخدمة أجندات إقليمية. ما سبق يطرح أسئلة مشروعة على ما يسمى بوصفات الإسلام المعتدل والمتطرف؛ فمن الأقدر على التعبير عن مصالح الشعوب العربية والمسلمة والدفاع عنها وخدمتها: الإسلام المعتدل العقلاني أم الإسلام المتطرف المأزوم؟! وأي خدمة أسدتها خلايا القاعدة للمحافظين الجدد وإسرائيل في أحداث 11 أيلول؟ من كان المستفيد الأول والأهم من هذه الأحداث ومن مثيلاتها في لندن وباريس ومدريد وشرم الشيخ وعمان؟ ومن يمثل المقاومة الحقة التي تخدم العراقيين: هل هو الزرقاوي وجماعته وخطابه وممارساته النزقة التي تدفع باتجاه احتراب داخلي وفوضى قاتلة، أم المقاومة الوطنية والإسلامية القادرة على توظيف السلاح لخدمة المصالح السياسية وقيادة مشروع الاستقلال والبناء والحوار الداخلي؟ حتى في المنظور التاريخي، وفي سياق تحليل الشروط الواقعية، فإنّ الإسلام المعتدل انتشر في فترات الانفتاح والازدهار واللحظات التي شهدت قدرة من النظام العام على الاستجابة للتحديات ومواجهة الأسئلة الكبرى. بينما انتشرت تيارات التطرف والتشدد في فترات الأزمات والفشل وعجز هذا النظام عن مواجهة التحديات. وما الخوارج والحشاشون إلا نتاج أزمات كبرى في الخبرة الإسلامية، أدت دورا تخريبيا دمويا. ومثلت رؤى منحرفة خطيرة ابتعدت عن مقاصد الإسلام وغاياته، وكانت بمثابة انعكاس للأزمات والشروط التي أنتجتها أكثر منها تعبيرا عن الإسلام ورسالته الإنسانية والأخلاقية. وفي هذا العصر، خرجت حركات التطرف والتشدد الإسلامي من أتون الأزمات ومن رحم المعتقلات والسجون والتعذيب، لحظة الصدام بين النظام المصري وبين الحركات الإسلامية. أما مجموعات وخلايا القاعدة المنتشرة في كثير من دول العالم، فهي رد خاطئ على أزمات سياسية ومجتمعية، فشل النظام العام بخلق فرص ومناهج صحيحة للتعامل معها. الإسلام المعتدل الوطني يمثل تعبيرا عن مصالح المجتمعات العربية وبوابة للعبور إلى المستقبل، وهو التهديد الحقيقي للنظم الاستبدادية العربية الغارقة في الفساد السياسي وفي الاستئساد على الداخل والانبطاح أمام الخارج. في المقابل لطالما استخدمت هذه الحكومات الجماعات الأصولية المتطرفة ذريعة لها لعدم القيام بخطوات إصلاحية حقيقية ومصادرة حق المجتمعات والأفراد في ممارسة سياسية نقية حرة بعيدا عن عصا الأمن والإرهاب الرسمي. فجعلت هذه النظم من "الإسلام السياسي" (بعبعا) أمام الإعلام الغربي. في الوقت الذي حاصرت فيه الخطاب الإسلامي المعتدل وأغلقت عليه القنوات والمنافذ. والإسلام العقلاني هو الذي يمتلك مفاتيح إدارة الصراع- الحوار الناجح مع الغرب، والدفاع عن مصالح المجتمعات والدول الإسلامية بطريقة فاعلة صحيحة، بعيدا عن العمليات العدمية التي تضر أولا وأخيرا بالشعوب والمجتمعات والجاليات المسلمة، وخارج سياق الخطاب المأزوم المرتبك الذي يسير وعيونه إلى الماضي وأزماته لا الى المستقبل وفرصه! الإسلام المستنير هو الجواب على أزمة المجتمعات العربية الفكرية والسياسية ومعضلة الارتباك بين التراث والمعاصرة، والقدرة على المواءمة بين شغف المسلمين الروحي واستحقاقات العصر، وبناء رؤى إسلامية للمشكلات المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات العربية: الاقتصاد والتنمية، النهضة الوطنية، الاندماج القومي، المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة، حقوق المرأة والأقليات، وفي صوغ مفاهيم لممارسة اجتماعية وفردية إسلامية حضارية. ما تحتاج إليه هذه المجتمعات اليوم هو اجتهاد فكري إسلامي يدفع بالتناقضات بعيدا عن حياة المسلمين، ويدمجهم في دورة التاريخ والفعل، بدل أن يكونوا ظواهر احتجاج وغضب على كل ما حولهم. وبدل تقديم نماذج مشوهة تصور الإسلام وكأنه دين القرون الوسطى ومحاربة الجديد واحتقار المرأة والتعصب والجهل المدقع! الخطاب الإسلامي المعتدل الوسطي العقلاني هو الأصل في التعبير عن جوهر الإسلام ومقاصده، وهو ليس وليد اليوم، أو بدعة غربية، إنما استحقاق حضاري وحاجة اجتماعية ملحة. بينما التطرف المنغلق المأزوم يمثل تعبيرا بامتياز عن أزمة سياسية ومجتمعية واقتصادية تقتضي العلاج. m.aburumman@alghad.jo
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|