بحسب أي معيار، وفي كل بلد عربي من المحيط إلى الخليج، لا يمكن لنا إلا أن نعترف بأن تطورا إيجابيا ما قد ظهر على صعيد احترام حقوق الإنسان العربي، رغم أن التفاوت يظل صارخا بين بلد وآخر. ففيما ذهب البعض إلى حد تكوين لجان مصارحة وتعويض على أمل المصالحة، يبدو الإفراج عن معتقلين سياسيين استنادا إلى تهم ملفقة تطورا كبيرا لدى آخرين بالنظر إلى عقود من الاستبداد. لكن القضية الأهم هنا فيما يتعلق بهذا الانفراج النسبي المتفاوت بشكل عام تظل متمثلة في الدافع الأساس وراءه؛ فهل كان إصلاحا من الداخل أم إصلاحا من الخارج؟
صحيح أننا اليوم، أكثر من اي وقت مضى، لا نستطيع وضع حد فاصل قاطع بين ما هو داخلي وما هو خارجي فيما يتعلق بقضايا شتى، ولا سيما الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أننا نستطيع مع ذلك وضع أوزان نسبية لعوامل التأثير؛ ووفق هذا المعيار يمكن لنا القول بكثير من الثقة إن العامل الأهم لكل تطور على صعيد احترام حقوق الإنسان في الوطن العربي يظل عاملا خارجيا وليس داخليا! مع ما يعنيه ذلك بأن هذا التطور والاحترام يبقى عرضة لأن يذهب أدراج الرياح في أي لحظة تغير تطال البيئة الدولية التي تخلقه وتحميه اليوم. أما السؤال المنطقي بناء على ذلك فهو: أين الخلل؟
تحت عنوان "احترام حقوق الإنسان" تعقد الكثير من المؤتمرات، وما لا يعد من ورش العمل، وأكثر من ذلك جميعا دورات تثقيفية وتعليمية وتدريبية؛ لكن ما يغيب عن القائمين على كل هذه الأنشطة، أو يغيب عمدا في الواقع، هو ضرورة التمييز بين ثقافتين اثنتين: "ثقافة حقوق الإنسان" و"ثقافة احترام حقوق الإنسان والدفاع عنها".
فالدورات التثقيفية التي لا نعدم مطالعة خبر تنظيم واحدة منها أو أكثر بشكل يومي تقريبا، تتولى تعريف المشاركين فيها بنصوص اتفاقيات ومواثيق وعهود تتعلق بحقوق الإنسان على اختلاف الفئات والمجالات المستهدفة، لكن إذا لم يكن الهدف النهائي لتلك الدورات هو "مجرد العلم بالشيء"، أو "العلم لمجرد العلم"، فهي إذن مجرد خطوة باتجاه الهدف الحقيقي، بحيث لا بد وان يبرز السؤال: ومن يحمي هذه الحقوق؟
بالتأكيد ليس المقصد هنا الانتقاص من قيمة التثقيف بنصوص الاتفاقيات والمواثيق الدولية، أو حتى القوانين الوطنية (إن وجدت)، إذ تظل لهذا الجانب أهميته؛ لكنه في الواقع ينقلب إلى الضد من غايته السامية المأمولة عندما يتحول إلى غاية في حد ذاته؛ إذ يغدو مثل هذا التثقيف أداة أخرى لإضفاء الشرعية على أنظمة بعيدة كل البعد عن احترام حقوق الإنسان، بل هي أنموذج عالمي على انتهاكها. ويكفي هنا أن نستذكر "المعهد العربي لحقوق الإنسان" في تونس، والذي اسس بهدف "نشر الوعي بحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية ونشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية في البلدان العربية"، ونتساءل هنا عن ثمرات إنجازات المعهد في بيئتيه المحلية والعربية منذ تأسيسه في العام 1989؟!
معروف أن الحق اسبق من اية اتفاقية أو قانون، ولا تكون هذه إلا نتيجة للمطالبة بالحق بهدف تقنينه وحمايته؛ وبعبارة أخرى فإن حقوقا يجب الدفاع عنها حتى قبل تقنينها في اتفاقيات وقوانين، فالدفاع والحماية هما الغاية. وفي ذات السياق، فإن كل الحديث عن حقوق الإنسان والأنشطة المتعلقة بها وما يلقاه كل ذلك من رواج، ولا سيما في الوطن العربي، هو تعبير عن وعي بالحاجة إلى حماية هذه الحقوق، بحكم الفطرة والإنسانية وليس بحكم اتفاقية أو قانون؛ سيما وأننا نكاد نعدم قوانين وطنية تتعلق باحترم حقوق الإنسان في أكثر بلداننا العربية، تماما كما هو حال الالتزام بالاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
بشديد اختصار، لاسيما أننا في زمن ثورة الاتصالات التي جعلت النصوص الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان منثورة في كل مكان، فإن من نحتاجهم فعلا في بلداننا العربية هم مدافعون عن حقوق الإنسان، يكشفون انتهاكاتها ويتصدون لها، ويسعون -كجماعات ضاغطة- إلى جعل احترام حقوق الإنسان وتجريم انتهاكاتها قوانين وطنية ملزمة.
manar.rashwani@alghad.jo