كانت دعوة المناضل الاسير مروان برغوثي الشعب الفلسطيني للمشاركة في الانتخابات، وتشكيل حكومة خلاص وطني، مؤشرا واضحا على ان حركة فتح تعترف بان عهد سيطرتها على النظام السياسي الفلسطيني قد دخل مرحلة ضرورة الاعتراف بدور "حماس" كشريك، وكمنافس رئيس في الآن ذاته.
فحركة فتح لم تتعرض لمثل هذا التحدي في تاريخها، ذلك أن الفصائل اليسارية والقومية لم تشكل حجم المنافسة التي تمثلها حماس، عدا عن ان هذه الفصائل كانت تنضوي تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية بعكس حماس التي كانت دائما منافسا للمنظمة وتوجهها العلماني، واستطاعت ان تصبح منافسا خطيرا لحركة فتح بعد اتفاقيات اوسلو والاحباط الذي ساد الشارع الفلسطيني جراء فشل عملية السلام في تحقيق الاستقلال المنشود والموعود.
اليوم، وفيما يقترع الفلسطينيون، تواجه هذه المنافسة الاختبار الاهم. فحتى لو احتفظت "فتح" بالاكثرية في المجلس التشريعي، فان حصول "حماس" على مركز منافس سيغير ديناميكية العمل الفلسطيني الى غير رجعة، خاصة ان استطاعت الفصائل الاخرى ان تحصل على عدد من المقاعد في المجلس.
واذا نظرنا الى تجربة سنوات المجلس التشريعي الاولى، فسنجد ان السياسة التفاوضية خضعت لقرارات دائرة صغيرة، بحيث بقي دور المجلس مهمشا. وفي النهاية، وعندما وصلت "عملية السلام" الى طريق مسدودة بعد كامب ديفيد، وبدا واضحا ان الطرف الاسرائيلي استعمل "العملية التفاوضية" في محاولة لفرض تسوية من طرف واحد تهدف الى تقويض الحقوق الفلسطينية وتفتيت الوطن، عند ذلك انتزع الشعب الفلسطيني المبادرة، وانطلقت الانتفاضة الثانية، وانتقلت حركة فتح من دور حزب السلطة لتعود الى صفوف حركة التحرير الوطني، فوجدت حركة حماس في الطليعة تنازعها موقعها التاريخي!
في حديثه المتلفز لمحطتي "الجزيرة" و"العربية"، حاول البرغوثي -مستمدا مصداقية نضالية من قيادته للانتفاضة الثانية، كما من معتقله- تثبيت الصورة النضالية لحركة فتح، فيما اعترف بأخطاء الحركة "كحزب السلطة"، وبممارسات الفساد التي اضعفت رصيدها لدى الشارع الفلسطيني. والاهم من هذا ان البرغوثي، الذي يقرأ الصحف العبرية بانتظام بالاضافة الى المقالات التي يتلقاها من محاميه، اظهر تخوفا من صورة الحركة وقيادتها باعتبارها الشريك "المفضل" اسرائيليا؛ اي بكلمات اخرى اصبحت حركة فتح الشريك الاكثر ليونة واسهل تطويعا، فيما تبرز "حماس" باعتبارها حركة المقاومة التي لا تساوم على حقوق الشعب الفلسطيني. ولهذا، نجد ان البرغوثي شدد على ان اسرائيل لا تريد احدا، سواء "فتح" او غيرها.
الملاحظ ايضا ان الرئيس محمود عباس اعتمد كثيرا على دعم مروان البرغوثي -اعترافا بشعبية الاخير- لتقوية وضع حركة فتح في الانتخابات، لكن جوهر الخط السياسي الذي تضمنته كلمات البرغوثي يختلف عن الخط السياسي الذي يتبناه عباس. فبينما يؤمن الرئيس عباس بان على الفلسطينيين اسقاط خيار المقاومة، واتباع سياسة اكثر ليونة مع اسرائيل واميركا، عبرت كلمات البرغوثي عن قناعة ببدء مرحلة جديدة، على اساس المشاركة الفعلية بين جميع التيارات السياسية، وان كنت لا اعتقد ان البرغوثي قد تخلى، كفتحاوي ملتزم، عن الرغبة في ابقاء حركة فتح في الطليعة.
ان دور البرغوثي، وان كان يتطلب تحليلا منفصلا، اصبح ورقة في يد عدة اطراف. فحتى لو كان للمناضل الصلب تفكيره الخاص، إلا أن من الواضح ان اسرائيل سمحت بالمقابلات التلفزيونية غير المسبوقة رغبة منها في اضعاف "حماس"، وبالتشاور مع الادارة الاميركية التي تشارك اسرائيل المخاوف نفسها من نتيجة الانتخابات التي قد تضع محمود عباس في وضع حرج. ومن الواضح ايضا ان الرئيس عباس نفسه بذل جهدا لترتيب المقابلات والحصول على الموافقة الاسرائيلية، فظهور مروان البرغوثي على شاشات الفضائيات كان اهم واقوى دعاية انتخابية حصلت عليها حركة فتح.
لكن الدور الذي يراهن عليه الرئيس عباس يتعدى مرحلة الانتخابات الى ما بعدها؛ اذ لن يكون سهلا التعامل مع المنظمات الفلسطينية بعد الانتخابات. فبالرغم من كل التحليلات التي تقول بان دخول المنظمات المجلس التشريعي سيكون بمثابة احتضان لها تحت مظلة اوسلو وشروط العملية التفاوضية، إلا أن الانتخابات استفتاء على قوة الفصائل، وخاصة "فتح" و"حماس"، في الشارع الفلسطيني، لا سيما وان احتواء جميع الفصائل، ما عدا الجهاد الاسلامي، داخل المجلس التشريعي لن يمنع انتفاضة شعبية اخرى، والرئيس عباس يعي تماما خطورة اي محاولة لنزع سلاح التنظيمات.
اذن، فبعض اوساط السلطة المحيطة بعباس تأمل ان يقوم البرغوثي بدور رئيس ومؤثر في تطويع التنظيمات، خاصة ان مروان البرغوثي أثبت في موقعه القيادي في الانتفاضة التزاما بالتعاون مع التنظيمات، على الاقل على صعيد قيادة الانتفاضة.
قدرة حركة فتح على ادارة اللعبة السياسية ما بعد الانتخابات تقابلها قدرة حماس ليس فقط على تعبئة الشارع الفلسطيني، بل والليونة تكتيكيا على الاقل. إذ لم تنتظر هذه الأخيرة كثيرا بعد ظهور البرغوثي على الشاشة، فبادرت إلى الاعلان على لسان الدكتور محمود الزهار بأن الحركة لا تعتبر المفاوضات من المحرمات، لكنها -وكما اشار الزهار ساخرا- تقبل مبدأ المفاوضات، وتستهجن خروج المفاوضين الفلسطينيين بابتسامة كبيرة، وتصريحات غير صادقة عن حقيقة المفاوضات! ولا شك ان كلمات الزهار تعبر عن سخط ورأي الكثيرين في الشارع الفلسطيني الذي فقد الثقة في العملية التفاوضية، إلا أن هذه الكلمات وان كانت ضربة لدور حركة فتح في المفاوضات، فإنها تبقى اعلانا لاستعداد حماس لدخول لعبة المفاوضات، وبالتالي قد لا يكون هناك سبب لخشية اسرائيل من فوز حركة حماس بأكثرية، لكن يبقى القلق فلسطينيا. فبالدخول في مزاد المفاوضات، خاصة في ظل غياب استراتيجية فلسطينية، تصبح الانتخابات ونتائجها جزءا من منافسة لتأمين دور في المفاوضات بدلا من استفتاء على استراتيجية فلسطينية!
الاهم من ذلك، ان الحملات الانتخابية، بما في ذلك تصريحات البرغوثي والزهار، دلت على ان الهمّ الفلسطيني اصبح محصورا في المفاوضات حول الوضع في الداخل الفلسطيني، فيما تبدو قضية اللاجئين واوضاع الفلسطينيين في المنفى خارج الاجندة.
lamis.andoni@alghad.jo