*حالة "شينوي" تعكس طبيعة قطاع المصوتين الذين يبحثون منذ سنوات عن "خشبة نجاة" تقودهم الى شاطئ الأمان بعد فقدانهم الثقة بالأحزاب الكبيرة *سقوط "شينوي" بمقاعدها الخمسة عشر يعيد ترتيب المقاعد من جديد *"ياحد- ميرتس" قادرة على كسب قسط بسيط من هذه المقاعد إذا رفعت من جديد راية محاربة الاكراه الديني*
قليلة هي الاستنتاجات النهائية التي بات من الممكن التعامل معها في الحملة الانتخابية الاسرائيلية منذ اليوم ومصير حركة شينوي الذي اصبح واضحا جدا هو واحد منها، وأي تطور في مصير هذه الحركة لن يسعفها بأكثر من عبور نسبة الحسم بقليل، بمعنى حصولها على 85 الف صوت مقابل 385 ألف صوت في الانتخابات البرلمانية السابقة، ولكن المعطيات الميدانية والاستطلاعات ترجح غياب كامل لهذه الحركة التي ظهرت سريعا وغابت بأسرع مما كان متوقعا.
ونحن نتكلم اليوم عن القوة البرلمانية الثالثة في الدورة البرلمانية المنتهية، التي سيطرت على 15 مقعدا من أصل 120 مقعدا، وخسرت أحدهم خلال الدورة، وقد ظهرت لأول مرّة بحلتها الجديدة في العام 1999، بانشقاق الوزير السابق ابراهام بوراز عن حركة ميرتس، بسبب خلاف جوهري في الرؤية الاقتصادية بينه، بصفته داعما لمصالح كبار رؤوس الأموال، وبين غالبية نواب ميرتس الذين يتبنون الفكر الاشتراكي على الطراز الاوروبي.
وحين خاضت "شينوي" الانتخابات في العام 1999 بزعامة الصحفي يوسيف (تومي) لبيد حصلت على ستة مقاعد، واختارت لنفسها راية محاربة الاكراه الديني، الى جانب "الدفاع" عن الشرائح الوسطى في المجتمع، بصفتها الشريحة التي ندفع أكبر قسط من الضرائب، وكانت بذلك المنافس الأقوى والاعنف لحركة ميرتس في الصراع على اصوات العلمانيين، الذي يناضلون ضد سياسة الاكراه الديني المتغلغلة في كتاب القوانين الاسرائيلي، وتتدخل في تفاصيل الحياة الدقيقة للفرد في اسرائيل، بدءا من تعريفه كيهودي أم لا، مرورا بشروط زواجه، وحركته ايام السبت والاعياد، واوقات العمل، والقائمة لا تنتهي.
وفي انتخابات العام 2003 انتهزت "شينوي" مسألة مشاركة حركة "ميرتس" في حكومة ايهود براك، زعيم حزب "العمل" في حينه، التي شاركت فيها ايضا حركة "شاس" الاصولية اليهودية الشرقية، وهي الخصم الأكبر لحركة شينوي التي غالبيتها من الاشكناز، وطغى على الصراع بين الحركتين في كثير من الاحيان الطابع الطائفي، الذي يغفو لفترات قصيرة، ويظهر بالضرورة في كل موسم انتخابي، وركزت شينوي في معركتها الانتخابية الماضية أكثر على مسألة الاكراه الديني، الى جانب استغلالها لحالة الفراغ السياسي الذي خلّفه الصراع الداخلي في حزب "العمل"، وايضا عدم رؤية سياسية واضحة، كون الانتخابات جرت في اوج العدوان الاسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، ونجحت الحركة، مستفيدة من جميع العوامل المذكورة بالاساس، في مضاعفة عدد مقاعدها مرتين ونصف المرّة لتحصل على 15 مقعدا.
وكان واضحا منذ تلك الفترة اننا امام حركة عابرة، او كما اصطلح على تسميتها حركة "ترانزيت" لا يمكنها الثبات طويلا في الخارطة السياسية لعدم وجود رؤية سياسية واضحة لديها، وبامكانها ان تتأقلم في حكومات اليمين واليسار، وحاولت الحركة خلال الدورة المنتهية التشبث أكثر بمصالح كبار رؤوس الأموال، إلا ان هذا لم يسعفها، كون ان هذه الشريحة تفضل اكثر الأحزاب ذات الامكانيات الاكبر لتكون القوة الأولى في الحكم، او انها ثابتة اكثر في سدة الحكم ولها اذرعها فيه.
وخلال الدورة البرلمانية كان واضحا ان تراجعا ما ستواجهه هذه الحركة التي انصاعت لأوامر قائدها تومي لبيد، وابقت على ضبابيتها السياسية، ولكن لم يتوقع أحد انهيارا كاملا بهذه السرعة، التي نشهدها اليوم، فالأزمة في شينوي اليوم تظهر على انها شخصية، ولكن هناك الكثير من العوامل التي قادت الى هذا الانهيار الكامل، وهناك أهمية للوقوف عندها، لأنها تعبر عن حالة عدم الثبات في الخارطة السياسية الاسرائيلية، وتعكس حجم الجمهور الاسرائيلي الذي يستصعب تحديد رؤيته السياسية في ظل التقلبات الكثيرة، ويبحث في كل موسم انتخابي عن "خشبة نجاة" تقوده الى شاطئ الأمان من وجهة نظره.
الأزمة الحاصلة في شينوي
توجهت الحركة قبل نحو اسبوعين لانتخاب مرشحيها، دون ظهور أزمة على السطح، وبات الأمر وكأن النتائج محسومة لصالح النواب الذين يقودون الحركة منذ العام 1999، وأولهم رئيس الحركة لبيد، والشخص الثاني ابراهام بوراز، ولكن النتائج جاءت مفاجئة كليا، فلبيد فاز بصعوبة بالمقعد الأول، وخسر بوراز مقعده الثاني لصالح شاب بعيد عن الحلبة السياسية، وفي الحال انسحب بوراز ومعه لبيد وستة نواب آخرين، على ما يبدو من دون رجعة الى الحركة.
وتجري في الايام الأخيرة عدة محاولات لرأب الصدع، من خلال حل وسطي، بجعل لبيد الأول وبوراز الثاني، ليحتل الفائز بالمقعد الثاني المقعد الثالث، ويجري هذا في ظل اعلان المقربين في محيط لبيد نيته الاعتزال العمل السياسي بعد سبع سنوات من انخراطه فيه، وكذا الأمر بالنسبة لابراهام بوراز.
وتحتاج هذه الحركة الى نجوم غير متوفرين حاليا، في حال انسحب الاثنان من العمل السياسي، ولكن حتى وإن عاد لبيد وبوراز الى الحركة فإن صورتهما، وصورة الحركة شبه احترقت امام الرأي العام الاسرائيلي، لكونها نادت طوال الوقت بـ "نزاهة الحكم"، والتشبث بالمفاهيم الديمقراطية، وهاجمت التقلبات السياسية بين الاحزاب والمواقف المختلفة، ودفعة واحدة خرقت كل خطابها السياسي في هذا المجال.
وتنعكس الأزمة ووضعية الحركة الحالية في استطلاعات الرأي التي تتنبأ اختفاءها كليا عن الخارطة السياسية، ولكن اصلا، قبل نشوء هذه الأزمة التنظيمية كانت استطلاعات الرأي تتنبأ سقوطها من 15 مقعدا الى 4 مقاعد.
الظاهر على السطح الآن هو الخلاف التنظيمي ولكن اسباب الانهيار السريع تعود الى اسباب أعمق، ذكرنا بعضها في ما سبق، ونوضح اكثر في ما يلي.
فهذه الحركة لم تقف على أرضية سياسية ثابتة، بل كانت تمثل قطاعا واسعا من الجمهور الذي لم يحسم طريقه السياسي، فهو لم ير باليمين الاسرائيلي حلا، ورأى حالة "الضياع" في اليسار الصهيوني، وحصول هذه الحركة على 15 مقعدا لم يعط الاجابة لهذا الجمهور طيلة ثلاث سنوات، بل أبقت شينوي على برنامجها السياسي الضبابي، تقود جمهورا بمئات آلاف الناخبين الى المجهول، تحت شعار "مركز الخارطة السياسية"، الى أن ظهرت حركة "كديما" بزعامة اريئيل شارون، ونادت بـ "الوسطية السياسية"، بمعنى بالخانة التي ترتكز عليها حركة شينوي، مع برنامج اوضح سياسيا مقارنة مع ما تطرحه "شينوي" الى جانب ظهور اشخاص "اثبتوا"، من وجهة نظر الرأي العام الاسرائيلي، انهم قادرين على التنفيذ، فأظهرت استطلاعات الرأي انهيارا حادا في قوة الحركة بخسارتها 66% من قوتها البرلمانية، إلا ان الضربة شبه القاضية جاءت بسقوط شارون على فراش المرض وظهور ايهود اولمرت، بشخصيته "المعتدلة" كما يراه الاسرائيليون.
فحتى الايام الأخيرة لشارون في الحلبة السياسية كان هناك من قوى الوسط السياسي من يهاب اللجوء الى شارون ذي الخلفية العسكرية واليمينية الدموية، وبالتالي عدم الثقة به، رغم ان الكثيرين في محيطه السياسي أقرب الى مركز الخارطة منه، وهذا التخوف، لدى من يعتبرون انفسهم "وسطا"، زال بزوال شارون عن الحلبة السياسية وظهور اولمرت، مما خلق حالة ارباك في داخل شينوي، وأجج هذا الارباك اجماع استطلاعات الرأي على خسارة شينوي القسط الاكبر من قوتها.
المنافسة على تركة شينوي
بغياب "شينوي" عن الخارطة السياسية سيكون من الناحية العملية اعادة توزيع 15 مقعدا من جديد، وهذه كمية لا يستهان بها لبرلمان يتكون من 120 مقعدا، فإن بقيت "شينوي" بشكل او بآخر، فإن أقصى ما يمكن ان تحافظ عليه اربعة مقاعد، وهناك الكثير من المحللين يرون في هذا نسج من الخيال.
وحسب المعطيات التي نستقيها من استطلاعات الرأي فإن المستفيد الأكبر من هذه "التركة" هو حزب "كديما"، ولكن قد نشهد متغيرات أخرى في هذا المجال، مع بدء الحملة الانتخابية الرسمية، وسماع الخطاب السياسي والاجتماعي لدى الأحزاب المختلفة، لأن حركة ميرتس، (او حسب تسميتها الجديدة "ياحد") لا تزال ثابتة على الخارطة السياسية، وإن كانت استطلاعات الرأي تبقيها في دائرة خمسة الى ستة مقاعد، وهي النتيجة التي حصلت عليها في الانتخابات السابقة.
والمقصود اساسا مما سبق هو المنافسة على قطاع جدي في اسرائيل تقدر قوته في حدود 5% من مجمل الناخبين، يضعون على رأس اولوياتهم الاكراه الديني، فقسم من هذا الجمهور لجأ في مطلع سنوات التسعين الى حركة اليمين الزائلة، "تسوميت" بزعامة الجنرال رفائيل ايتان، واستفادت منه كثيرا حركة "ميرتس" الى ان ظهرت حركة "شينوي".
وهذه القوة التي تنعكس في مقاعد الكنيست الى حد سبعة مقاعد، تتركها حركة "شينوي"، وصاحب "الحظ" الأوفر في اقتطاع حصة منها هي حركة ميرتس، إذا ما قررت اعادة تسليط الضوء على هذه القضية في حملتها الانتخابية، فخطاب كهذا لا يمكن أن يطرحه حزب "كديما" الذي ينافس على السلطة، ومثله "العمل" والليكود"، وهم سيواصلون "مسايرة" جمهور المتدينين، باعتبار ان المتدينين هم بيضة القبان لأي حزب يقتبر من نيل السلطة.
وحتى الآن لم يظهر استطلاع واضح يعكس الحجم الحالي لجمهور المناهضين للاكراه الديني بالدرجة الأولى، ولكن حتى وإن تراجع نوعا ما امام حدة الخطاب السياسي، وانشغال اسرائيل أكثر في مستقبلها في ظل القضية الفلسطينية، إلا انها قوة باقية، بمعنى آخر ان حركة "ميرتس" (ياحد) قد تحظى بقسط ولو بسيط من "تركة" شينوي، وهذا ما سيتضح لاحقا.
"ياحد- ميرتس"
عمليا، وكما ذكر فإن استطلاعات الرأي تتنبأ لحركة ميرتس الحفاظ على قوتها الحالية في الكنيست، ما بين خمسة الى ستة مقاعد، علما ان ميرتس كانت قوتها في انتخابات العام 1999 10 مقعد، وخسرت منها اربعة في انتخابات العام 2003.
وتظهر "ميرتس" اليوم متماسكة أكثر، ونجحت في اجتياز الانتخابات الداخلية في الحزب دون احداث قلاقل، رغم التحفظات الكثيرة من زعيم الحزب يوسي بيلين، ورغبة مؤسسي الحركة باستبداله بالنائب ران كوهين، ولكن هذا الخلاف سكت امام العواصف التي عصفت بالخارطة السياسية، وميرتس" هي واحدة من حركتين، لم تتأثران من هزة "كديما" والثاني هي حركة النقيض، "شاس".
ولم تظهر في أي استطلاع في الشهرين الأخيرين مما يدل على ان "ميرتس" بعيدة عن تلقي ضربة اخرى، وهذا ما يعطيها فرصة لتعزيز قوتها وزيادتها بمقعد او مقعدين، فقفزة كهذه على الرغم من صغرها، تثبتها أكثر على الخارطة السياسية.