نتائج الانتخابات الفلسطينية وما أسفرت عنه من حصول حماس على أكثرية مطلقة تمثل زلزالا سياسيا في المنطقة بلا جدال، لا بد من قراءة دلالاته ومؤشراته على أكثر من صعيد سياسي. فهناك سؤال صعود الإسلام السياسي في العالم العربي وتفرده في الساحة الشعبية وما يرتبط بذلك من إشكاليات وجدالات، وهناك سؤال العلاقة بين الإسلاميين والولايات المتحدة فيما إذا كانت ستتخذ صيغة الحوار والتفاهم أم الصراع والتناحر، وهناك الموضوع الداخلي الفلسطيني، وهو الأهم في المرحلة القادمة، وتُطرح على هذا الصعيد العديد من الأسئلة الحاسمة مرتبطة بعملية تشكيل الحكومة الفلسطينية وما يتبع ذلك من مواقف حماس السياسية بالتحديد من التسوية والعلاقة مع إسرائيل.
بالتأكيد فإن هذه الانتخابات وتطورات الوضع الداخلي الفلسطيني ستمثل اختبارا عمليا وفريدا لمعضلة البديل الإسلامي ودوره السياسي في المرحلة القادمة، ليس فقط في فلسطين بل في المنطقة بأسرها.
أغلب التحليلات والقراءات السابقة كانت ترى أن حماس لن تسعى للحصول على أكثرية في الانتخابات، تجنبا لاستحقاقات كبيرة. إلا أن المفاجأة وقعت بالفعل، وأُخِذت حماس نفسها بهذه النتائج التي وضعتها ووضعت الشعب الفلسطيني معها أمام معادلات واحتمالات جديدة ومصيرية.
أحد الاحتمالات الرئيسة اليوم، وفي حال إصرار فتح على عدم المشاركة في الحكومة القادمة، أن تنجر حماس إلى مواقف سياسية واقعية، وتستجيب للضغوط الدولية والإقليمية بالتخلي عن
خيار المقاومة المسلحة، وإعلان القبول بالمسار السلمي، وهو الشرط الواضح الصريح من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وهي بالتأكيد رغبة إسرائيلية.
عدد من المراقبين والمقربين من حركة حماس يستبعدون تماما هذا الخيار، ويرون أن حماس لا تستطيع أن تقوم بهذا التحول، لأنه باختصار كفيل بخسارة قاعدتها الاجتماعية والانتخابية التي ساندتها بقوة في الانتخابات بناء على برنامجها الحالي. في المقابل فإن هناك توجها آخر يرى أن حماس تسير، في الفترة الأخيرة، بوضوح تجاه هذا التحول والإمساك بالسلطة بدلا من فتح، وأن لديها الاستعداد للتفاوض مع الإسرائيليين، وهو ما تسنده تصريحات عدد من مرشحي حماس وتلميحات عدد من قياداتها السياسية. ويرى هذا الاتجاه أن الأساس الذي تم انتخاب حماس على أساسه هو إصلاح الوضع السياسي الفلسطيني وكسر حالة الفساد الإداري والمالي المستشري في السلطة، كما أنّ هموم الشعب الفلسطيني اليومية تتطلب خطابا واقعيا عمليا يخفف من المحنة التي يعاني منها الشعب منذ عقود.
القراءة الموضوعية لتطور الأحداث تشير إلى أنّ التحول الاستراتيجي لحماس، بعيدا عن عملية تقييم ذلك إيجابا أو سلبا، أصبح أمرا واقعا، ويسير إلى نهاياته المنطقية. وهنا تطرح مسألة التناقض بين خطاب المكتب السياسي لحماس في الخارج، وعلاقته بكل من سورية وإيران وبين التحولات الجديدة واستحقاق الحكم والتعامل مع الضغوط الخارجية. في هذا السياق فإن الاحتمال الأكبر هو إما عودة المكتب السياسي لحماس إلى الخط المصري- السعودي، أو بروز قيادة سياسية جديدة في الداخل تمسك هي بمقاليد حماس وتتحكم بسلوكها السياسي الداخلي، وتعيد المكتب السياسي إلى مربع صغير من العلاقات العامة الخارجية. وهنا يمكن الحديث عن ازدواجية القيادة داخل حماس، كما هو الحاصل اليوم داخل حركة فتح، بين قيادة حركية وتنظيمية وقيادة سياسية داخلية.
بعض المقربين من حماس يحاول التقليل من خطورة المرحلة الجديدة، بالقول أن الاستطلاعات الإسرائيلية تظهر تقدم حزب كاديما في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، لذلك ستستمر إسرائيل بعملية الفصل أحادي الجانب، كما حصل في غزة، وهذا سيعفي حماس من تقديم أية ضريبة حقيقية لتوليها الحكم، كما أنها ليست مضطرة لتنسيق الانسحاب الإسرائيلي. إلا أن هذا التحليل يتناسى أن السلطة ذاتها قائمة على أوسلو وعلى التنسيق مع إسرائيل في مختلف المجالات، بما في ذلك الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني. كما أنه لا يمكن استبعاد الضغوط الإقليمية والدولية ودورها في دفع حماس باتجاه الواقعية السياسية، وقبل ذلك من الصعوبة، إن لم يكن الاستحالة، أن تكون حماس هي الحكومة ولا تدفع في الوقت نفسه استحقاق ذلك وضريبته.
في مقابل الاحتمال الأول، هناك احتمال أن تعود حركة فتح عن قرارها بعدم المشاركة في الحكومة، وأن يتم تشكيل حكومة فلسطينية على قاعدة الشراكة الوطنية، وهذا يسهل تماما عملية التحول التدريجي في خطاب حماس وممارستها، ويساهم في الوقت نفسه في تنمية التعددية السياسية الداخلية، والمسؤولية المشتركة في تحمل أعباء المرحلة القادمة وتداعياتها، ما يتطلب من القوى السياسية الفلسطينية مجتمعة تغليب المصالح الوطنية على الحسابات الحزبية والأيدولوجية. ويبدو هذا الاحتمال هو الأفضل ويجنب الشعب الفلسطيني منزلق مخاطرات ورهانات سياسية خطيرة، بانتظار الانتخابات الإسرائيلية وما ستسفر عنه.
أما إذا أصرت فتح على موقفها ورفضت المشاركة في تشكيل الحكومة الفلسطينية، ولم تتمكن حماس من تجاوز المعضلات التي تحول بينها وبين قبولها بالواقع السياسي الحالي من ناحية، واحتفظت فتح، من ناحية أخرى، بنفوذها وقوتها في رئاسة الدولة وإدارة الأجهزة الأمنية والحكومية، ووقعت حالة من ازدواجية السلطة وتناقضها، وانعكس ذلك على العلاقة بين الفصائل الفلسطينية، فسنكون أمام حالة انهيار للحالة الفلسطينية بأسرها، والدخول إلى نفق خطير جديد، ستستثمره إسرائيل من خلال التأكيد على عدم قدرة الفلسطينيين على إدارة الوضع الداخلي. وسيعود المجتمع الدولي بضغط من إسرائيل والولايات المتحدة باتجاه الحديث عن دور إقليمي لدول الجوار، سيكون بالتأكيد على حساب الدولة الفلسطينية.
مستقبل الفلسطينيين اليوم بأيديهم تماما، ومصيرهم السياسي مرتبط باختيار واضح لا لبس فيه: فإما تغليب العقل والمصلحة الوطنية الفلسطينية وإثبات كفاءة هذا الشعب وتتويج نضاله التاريخي، وإما الاحتكام إلى صوت العاطفة والحسابات الحزبية الضيقة وعند ذلك سيخسر الفلسطينيون جميعا ولن يربح أحد!
m.aburumman@alghad.jo