بداية لا بد من تأييد مبدأ تداول "السلطة"، وان كان المشهد الفلسطيني يمثل حالة خاصة ومشوهة، ونموذجا لسلطة فاقدة السيادة ومنقوصة السلطة تحت الواقع المستمر للاحتلال الاسرائيلي، لذا فإن اي نقاش لهزيمة حركة "فتح" يجب ان يتم وضعه في اطار تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة ما قبل التحرر، ناهيك عن مرحلة ما قبل الدولة.
لست بصدد تحليل اسباب هزيمة حركة "فتح"، ولكن قراءة دلالات هذه الهزيمة التاريخية لحركة أمسكت بقيادة مسار التحرير الفلسطيني لعقود. نعم ان حالة الفساد والتفلت الأمني لعبتا دورا كبيرا في هذه الهزيمة، لكن القضية الرئيسية تكمن بأنّ حركة "فتح" ولأول مرة فقدت مركزها الطليعي في حركة التحرر الفلسطيني في مفاجأة مدوية لها ولحركة حماس المنتصرة على السواء.
ان انتصار "حماس"، والأهم من ذلك طبيعة هزيمة "حركة فتح" في الانتخابات تقدم صورة واضحة بأن الشرعية الدولية المنقوصة والمشروطة لا يمكن ان تحل محل الشرعية الشعبية. فحتى بعد اوسلو استطاعت "فتح" الحفاظ على موقعها الريادي بناء على رصيد تاريخها المقاوم، من خلال الكفاح المسلح او الاشكال السياسية في تمثيل حقوق
الشعب الفلسطيني، فثقة الشعب الفلسطيني بحركة "فتح" بكل "اخطائها وخطاياها" لم يجلب لها الاعتراف الاميركي والاسرائيلي. فحتى خلال وبعد مفاوضات اوسلو، استمدت "فتح" قوتها -بما في ذلك مساندة الفصائل المعارضة لها في منظمة التحرير الفلسطينية- من سنوات الكفاح المشترك. وبرأي كثير من الفلسطينيين، انه ومع كل التنازلات السياسية بعد اوسلو، فإن حركة "فتح" لم تتجاوز الخطوط الحمراء، وان كانت قد اقتربت منها.
الخلل بدأ قبل اوسلو، لكن ما يعنينا هو مرحلة ما بعد اوسلو، عندما رفعت "فتح" شعار بناء الدولة، دون ايلاء أهمية لواقع استمرار الاحتلال، ولوظيفة حركة التحرر من منظور استراتيجي، وبلا شك فإن الفشل في بناء مؤسسات، وإن كان هناك استثناءات، واستمرار السيطرة الاسرائيلية ادى الى اضعاف "فتح" ومكانتها الجماهيرية. فلا تم بناء دولة ولا تحقيق حرية.
لا اريد تحميل حركة "فتح" عبء السياسات الاميركية والاسرائيلية، لكن آن الاوان لحركة "فتح" ان تواجه نفسها بكل صراحة وصدق، مع الاعتراف ان وضعها في سلطة منقوصة ساهم في تضييق خياراتها، خصوصا تحت حصار سياسي وعسكري اسرائيلي وأميركي.
الآن، الشعب الفلسطيني قال كلمته بصوت عال. وقد لا يكون الشارع الفلسطيني مؤمنا بحركة حماس وبأيدولوجيتها الدينية، فليس عبثا ان شخصيات فلسطينية ومثقفين اختاروا التصويت لحماس لبعث رسالة إلى السلطة رفضا للفساد والتبعية، ولكنها ايضا رسالة لصالح مبدأ المقاومة في مواجهة الشروط الاسرائيلية- الأميركية، وتذكيرا للرئيس الفلسطيني وحركة "فتح" ان مركز الشرعية يكمن في نبض الشارع الفلسطيني، وليس في تل ابيب وواشنطن.
ان انتصار حماس ليس كارثة لحركة "فتح" كما يظن الكثيرون، اذ ان الصدمة في خيار الشعب الفلسطيني هي رسالة ايقاظ قاسية لحركة فتح، التي انشغلت بانقساماتها الداخلية والتنافس على مواقع السلطة، نائمة على امجاد سجلها وتضحيات شهدائها ومن قبلها.
اريد ان اذكر كلمات كان يرددها خليل الوزير "ابو جهاد" لي، في كل نقاش حول سياسة الحركة، فكان دائما يطمئنني بطريقته الهادئة: "بأنه ما دامت حركة "فتح" تسعى الى تغيير الواقع فإن الامور بخير". كلمات "ابو جهاد" ظلت تلاحقني منذ اعلان النتائج، وفهمت مغزاها اكثر من خلال رسالة الشعب الفلسطيني لقيادة "فتح"، اذ ان قيادة حركة "فتح" بخاصة بعد اوسلو، اصبحت منكبة على ترسيخ الواقع، وليس تغييره لأسباب سياسية ضيقة. والأنكى من ذلك التنافس بين مسؤولين فتحاويين على رضى واشنطن عليهم شخصيا، ما ادى الى اصطفاف بعضهم، وان لم يكن علنا، ضد الزعيم الراحل "ياسر عرفات" بعد موقفه الرافض، في كامب ديفيد، الموقف الذي كان اكثر امانة لحقوق الفلسطينيين من كل زيارات ولقاءات "ابو عمار" في البيت الابيض.
ان الفساد السياسي الذي بدأ ينهش جسم "فتح" وفئات نخبوية من الشعب الفلسطيني، جاء بنتائج مدمرة، ليس بفوز حماس، بل بانحسار مصداقية وشعبية حركة "فتح" وابتعادها عن القاعدة المركزية والشعبية الفلسطينية.
اما عن شعار "الكهول" و"الشباب"، فأكثر ممثلي "الشباب" قد اقترب او جاوز منتصف العمر، ولا نرى دورا حقيقيا للشباب، بل باسم "الشباب" المغيبين من قيادة الحركة او المستغلين من بعض الرموز، فاستمرار شحن القاعدة الفتحاوية بمثل هذه الشعارات هو بداية طريق مدمر للحركة ولإرثها وتاريخها. والمشكلة ان الشبيبة "الفتحاوية" التي ذهلت بنتائج الانتخابات، والتي عانت وتعاني من قهر الاحتلال وشح لقمة العيش، من الممكن ان تنقاد بسهولة الى مثل هذا الصراع، بخاصة ان لديها مخاوف ان تقرر حركة "حماس"، عندما تتحكم بالسلطة، فصل شباب "فتح" من الأجهزة الأمنية لإعطاء الوظائف الى مناصريها.
المخيف في الأمر هو استمرار مراكز القوى في تصعيد الصراع، وقيادته في منحى مصلحي محض بدلا من مجابهة الخلل الحقيقي المتمثل في غياب الاستراتيجية، التي تتحمل مسؤوليتها قيادة "القادمين" و"الداخل" بغض النظر عن الفروق العمرية كهولا كانوا ام شبابا.
ان التحول التاريخي الذي افرزته الانتخابات يقدم فرصة حقيقية لحركة "فتح" ان تعيد بناء مؤسساتها. فابتعاد "فتح" عن السلطة قد يكون افضل ما حدث للحركة اذا استطاعت مواجهة الأزمة بشجاعة وبالتزام وطني، وإلا فإن الكارثة ستكون اعظم.
lamis.andoni@alghad.jo