باستثناء الرئيس محمود عباس، الذي ارتضى دفع الثمن كاملا وغاليا لقاء تنظيم انتخابات تبدو وفق أقل تقدير واحدة من أكثر الانتخابات نزاهة في العالم العربي، إن لم تكن الأكثر نزاهة على الإطلاق، باستثناء عباس ربما لا تبدو هذه الانتخابات بنتائجها "المفاجئة" مدعاة لغبطة كثيرين على الساحة العربية، بل إن الانتخابات الفلسطينية تكاد تبدو بالنسبة إلى كل الفرقاء، بغض النظر عن سماتهم واتجاهاتهم العامة، كما بشأن علاقتهم بالطرف الفائز؛ أقرب إلى فتح "صندوق باندورا" المغلق لتنطلق منه بالتالي كل الشرور!
فبعد إردوغان وحزب العدالة والتنمية في تركيا، ومحمد أحمدي نجاد في إيران، ربما بات من الممكن اعتبار انتصار حركة حماس في فلسطين سببا كافيا ونهائيا لإعلان حل الأحجية-الذريعة "أيهما أولا، البيضة أم الدجاجة؟!" على صعيد الإصلاح في العالم العربي، أو بلغة "اللاإصلاحيين" العرب "أيهما أولا، إصلاح اقتصادي أم إصلاح سياسي؟"، أو "إصلاح من الداخل أم إصلاح من الخارج؟". فهكذا، وكما تظهر كل النماذج السابقة، لم يعد ثمة حاجة إلى القول إن الإصلاح الذي نرتضيه في العالم العربي، وبما لا يثير أدنى شبهة بالعمالة للخارج، هو الإصلاح الذي يبدأ بمحاربة حقيقية للفساد؛ من حيث هو مسألة سياسية بقدر ما هي اقتصادية!
وفي ذات سياق الإصلاح في العالم العربي، ولا سيما على صعيد الإصلاح السياسي الذي لا ينفصل عن أي إصلاح آخر، اقتصاديا كان أم إداريا أم ثقافيا أم اجتماعيا، فليس من المبالغة أن نزاهة الانتخابات الفلسطينية كانت بالتأكيد ضمن المكاسب المنظورة لعدونا الإسرائيلي؛ الذي استطاع خلق معركة حقيقية جديدة، قام بنقلها -كما هو دأبه أبدا- إلى أرضنا.
فالعدو الذي طالما كان "الفزاعة" الأمثل في خطاب إعاقة الديمقراطية ووأدها حيثما بدأت في غير بلد "ثوري" عربي، هذا العدو أعلن فك ارتبط من جانب واحد من تلك الأنظمة، وبما يشبه إلقاءها في العراء؛ إذ هل يعقل أن تسمح دولة الاحتلال الاستيطانية، إسرائيل، بإجراء انتخابات على أعلى درجات النزاهة، وبما يفضي -حتى وإن كان لحاجة في نفسها- إلى فوز ألد أعدائها، فيما تحرم الأنظمة "الوطنية" و"القومية" شعوبها من أدنى حقوقها الإنسانية، ناهيك عن المشاركة السياسية السلمية وتداول السلطة؟!
ومعركة الديمقراطية هذه التي يتوجب علينا جميعا خوضها ليست معركة داخليا أبدا، وإنما هي وبذات الأهمية معركة خارجية، يتوجب خوضها خصوصا على من يجأرون بالشكوى من المؤامرات الخارجية، اللهم إلا إن كانت مؤامرات وهمية من نسج خيالهم وبمعرفتهم. فمن بداهة أن الصورة المنقولة هي ركن أساس في صد المؤامرات وكسب الرأي العام "المضلل"، لا نطالب ضحايا المؤامرات هؤلاء إلا بمقارنة ملامح إسرائيل "الديمقراطية" بملامح الديكتاتورية "البربرية"، من حيث هي منافية للحضارة في الرؤية الغربية، ولنكتشف بالتالي أحد أهم اسباب الصورة المغلوطة عن العرب والمسلمين على امتداد العالم!
ربما أن المعضلات السابقة تخص بالأساس فريقا تضيره في الحقيقة أي انتخابات في العالم العربي، وعلى أي مستوى كان؛ لكن المعضلة الأهم التي تكشف عنها الانتخابات الفلسطينية إنما تواجه الفريق الفائز في هذه الانتخابات بكل ارتباطاته الإقليمية، وهو الحركة الإسلامية في العالم العربي!
فأخيرا، وسواء أكان ذلك مقصودا أم أنه جاء نتيجة "خطأ"، بات الإسلاميون اليوم، ولأول مرة في تاريخهم، "مضطرين" للحكم وإثبات الوجود كصانعي سياسية لا كمعارضين؛ والأهم أن هذا الوجود والحكم هو في قلب الصراع التاريخي العربي-الإسرائيلي، في فلسطين. وبعبارة أخرى، باتت حماس اليوم المقياس والمؤشر على مدى القدرة على نقل الشعارات إلى برامج حقيقية يستطيع الناس تقييمها والمحاسبة بناء عليها، وفيما يفترض أن يكون بداية نهاية التصويت للإسلام، من حيث هو دين رباني "صالح لكل زمان ومكان"، والانتقال بالتالي إلى التصويت على مدى القدرة على فهم وتوظيف الأحكام الشرعية بما ينفع الناس فعلا لا قولا.
و"حماس" التي دخلت الانتخابات في ظل الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدة تخطيطها المسبق للحصول على الأغلبية المطلقة داخل المجلس التشريعي الفلسطيني، سيكون عليها حتما وبالنتيجة التعاطي مع إسرائيل لا التذرع بها لتبرير اي فشل أو إخفاق، الأمر الذي يؤذن بنهاية المزاودة باسم "القضية"؛ فبعد انتصار "حماس" لم يعد من الممكن أن يكون المزاودون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
manar.rashwani@alghad.jo