إسرائيل ومسرحية إخلاء بؤرة!
الجمعة 3/2/2006 برهوم جرايسي- "الغد" الاردنية
للمرّة الثانية خلال ستة أشهر تضع اسرائيل العالم امام مشاهد اخلاء المستوطنين من مستوطنة او بؤرة استيطانية. وكانت مشاهد(يوم الاربعاء) تصور اخلاء البؤرة الاستيطانية "عمونة" الواقعة شمال مدينة رام الله في الضفة الغربية، وتسكنها حوالي 15 عائلة، وفيها تسعة مبان اسمنتية، قائمة منذ 11 عاما على اراض فلسطينية بملكية خاصة، استولى عليها المستوطنون عنوة، وقسم من الأراضي يعتقد انه كان ضحية صفقات بيع مشبوهة من دون علم اصحابها. وامام عدسات ومايكروفونات البث المباشر على مدى ساعات، بعثت سلطات الاحتلال بحوالي 6500 جندي وعنصر أمن من قوات الاحتلال لاخلاء تلك العائلات، وانضم اليهم أكثر من ثلاثة آلاف مستوطن من جميع انحاء الضفة الغربية، على الرغم من ان الاحتلال أعلن عن تلك المنطقة، كمنطقة عسكرية مغلقة، يحظر على كل من لا يقيم فيها ان يدخلها، ولكن في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة قبل الاخلاء تدفق لهذه البؤرة آلاف المستوطنين، من دون أي عائق، او أن يمنعهم أحد، رغم ان مصطلح "منطقة عسكرية مغلقة" في قاموس الاحتلال، يعني ان كل من يدخل الى هذه المنطقة يعرض نفسه لخطر الموت، وكم من الفلسطينيين الذين قتلوا بعد دخولهم عن طريق الخطأ الى مناطق كهذه، ومن بينهم أطفال ورعاة مواش وغيرهم. كان واضحا منذ البداية اننا امام مسرحية، وكما قالت الصحافية اليسارية الاسرائيلية "ميراف ميخائيلي"، إنها مسرحية لصالح كل الممثلين فيها، فرئيس الحكومة بالوكالة، ايهود اولمرت، يريد الظهور امام العالم وكأنه حازم في قراراته، رغم اقترابه من موعد الانتخابات، ورسالة كهذه يوجهها اولمرت لمعسكره الانتخابي الثابت، ليقول لهم، ليس فقط اريئيل شارون ينفذ وانما هو أيضا، أما بالنسبة للمستوطنين وقوى اليمين فإن مثل هذه المشاهد تعزز حملتهم الانتخابية، وتكون الجهتان رابحتين. كل الحكاية تلخصت في ازالة بؤرة واحدة، ومن باب الموضوعية فإنها خطوة جيدة، ولكن هذه الخطوة تتقزم كليا حينما نطلع على الأرقام الحقيقية لظاهرة البؤر الاستيطانية والمستوطنات برمتها، فاليوم تنتشر في جميع انحاء الضفة الغربية 120 بؤرة استيطانية وفق تقرير اسرائيلي رسمي، و123 مستوطنة اقيمت بقرار وتمويل مباشر لسلطات وحكومة الاحتلال. اسرائيل تعتبر البؤر الاستيطانية وحدها غير قانونية، لأنها لم تقم بقرار حكومي، لكن الواقع يقول شيئا آخر، فكل الدلائل والتقارير، حتى الرسمية منها، تؤكد ان هذه البؤر، التي تزعم اسرائيل انها ملتزمة بإزالتها بموجب التزامات "خارطة الطريق"، يتم تمويلها مباشرة من خزينة الدولة الاسرائيلي. ففي مطلع شهر آذار(مارس) الماضي، صدر تقرير أعدته مسؤولة كبيرة في النيابة الاسرائيلية، بطلب من رئيس الحكومة اريئيل شارون، أكد على وجود 120 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية، 54 بؤرة منها على الاقل اقيمت على اراض بملكية فلسطينية خاصة، بمعنى انه تم سلبها من اصحابها، وقطع مصادر رزقهم. والأنكى من هذا أن اقامة هذه البؤر، كالمستوطنات، تم بتمويل مباشر وغير مباشر من ميزانيات الوزارات المختلفة في اسرائيل، على مدى سنوات، خلال حكومات حزبي "العمل" و"الليكود" على حد سواء. يومها قرأنا الكثير من التحليلات، في اسرائيل، تؤكد ان التقرير يثبت مخالفات جنائية قام بها عدد من المسؤولين في تلك الوزارات، ومن الممكن تقديمهم لمحاكمات. لكن النتيجة واضحة، فهذا التقرير لم يلتفت اليه أحد، وما زال "المسؤولون" في مناصبهم. وعلى سبيل المثال فهذه البؤرة التي أخلتها اسرائيل صرفت عليها ملايين الدولارات خلال سنوات، فأولا تم شق طريق معبدة لها بطول أكثر من كيلومتر من المستوطنة القريبة منها، وتم مد شبكة كهرباء رسمية من شركة الكهرباء الاسرائيلي الحكومية، بتمويل من وزارة البنى التحتية، كما انه تم مد انبوب مياه كبير من شركة المياه الحكومية الاسرائيلية، وخلال سنوات تمت اقامة تسعة مبان اسمنتية، وبدأ الاعداد لبناء مبان أخرى، بالاضافة الى كل هذا فإن هذه البؤرة، على غرار البؤر الأخرى تنعم بحراسة جنود الاحتلال على مدارس الساعة يوميا. في يوم الإخلاء، وكما كان متوقعا، وحتى كما هو مبرمج، رأينا الكثير من العنف والدماء والدموع، واسرائيل الرسمية معنية بهذه المشاهد، ولهذا دأبت على تجنيد جيش من الاعلاميين من وسائل اعلام عالمية، ليبثوا هذه المشاهد الى جميع انحاء العالم، تماما كما كان الحال في اخلاء مستوطنات قطاع غزة واربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية، في الصيف الماضي. فإسرائيل تريد القول: إذا في اخلاء بؤرة واحدة جرى كل هذا فكيف يكون الحال عند اخلاء بؤر ومستوطنات أكبر؟ وبالتالي تريد اسرائيل اقناع العالم، بأن الاستيطان في الضفة الغربية وهضبة الجولان هو واقع من المستحيل تغييره، من وجهة نظرها، وفي الوقت نفسه، فإن اسرائيل لا تكف عن توسيع وتوطيد هذا "الواقع الاستيطاني". لقد أخلت اسرائيل يوم الاربعاء نقطة واحدة من بحر الاستيطان الذي تغرق فيه الضفة الغربية، وطبعا هضبة الجولان السورية المحتلة، ولكن في واقع الحال فإن اسرائيل لو كانت معنية بتنفيذ الالتزامات لمنعت أولا اقامة بؤر جديدة، فعند اخلاء كل بؤرة نرى بعد ايام اقامة بؤر جديدة، دون أي عائق، وثانيا لقطعت كل الميزانيات التي تدفقها على هذه البؤر من الباب الخلفي. إن الخطورة في ما نشهده اليوم، هو ان الانشغال في البؤر الاستيطانية جاء ليبعد الحديث عن المستوطنات والكتل الاستيطانية، وأكثر من هذا هو ان جهات عالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة باتت تكرر مصطلحات احتلالية، فاسرائيل تتحدث عن القانوني وغير القانوني في الاستيطان، وتقول للعالم ان كل مستوطنة اقيمت بقرار اسرائيلي رسمي هي "قانونية"، وغير ذلك فإنها ليست قانونية، بينما القانون الدولي يحظر أي استغلال او استعمال للأراضي المحتلة، كما ان القضاء الاسرائيلي يتواطأ كثيرا مع مجموعات المستوطنين، ويصدر قرارات تعيق عمليات الاخلاء والهدم، وحتى انه يمنع بعضها، ليكون القضاء الذي تزعم اسرائيل استقلاليته حلقة اخرى في المؤسسة الرسمية بسياستها وليس منفصلا عنها.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|