أدخلت الإنترنت أولا ثم الفضائيات الإعلام في مرحلة تخرجه من الحتمية إلى الاختيار بلا حدود، ومن الأحادية في الطرح والتلقي إلى المشاركة، فالبرامج التلفزيونية والإذاعية بدأ يغلب عليها المشاركة بين المعدين والمقدمين وبين الجمهور. وقد تصل الأمور في بعض البرامج والحالات إلى أن الجمهور هو الذي يصوغ البرنامج بنسبة عالية، مثل تلفزيون الواقع. وتتيح الإنترنت أيضا فرصة سهلة وغير محدودة للمشاركة في التعبير والنشر، سواء في المواقع الشخصية أو المساحات التي تتيحها، أو بنظام المدونات "البلوغز" الذي يتيح لجميع الناس فرص النشر والتفاعل بلا حدود. ويتيح أيضا استخدام الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون للإنترنت فرص التعليق والمشاركة للجمهور بسهولة تتفوق على الهاتف، وتجعل المادة الإذاعية والتلفزيونية حية طوال الوقت يمكن استرجاعها.
بالطبع فإن هذه التحولات التقنية الكبرى تحول من طبيعة الإعلام وإدارته وسياساته وأهدافه، فلم يعد الإعلام رسالة تعدها الدولة أو الجهة المالكة ويتلقاها الجمهور، ولكنه شبكة يتشارك في إدارتها وملكيتها وصياغة سياساتها جميع الناس، وهي تحولات تحتم على وسائل الإعلام إعادة صياغة برامجها وطريقة عملها وفق فلسفة مختلفة كليا عن العقود الماضية، تأخذ بالاعتبار أساسا اتجاهات الجمهور ومواقفه، وتعطيه أيضا مساحة كبيرة في المشاركة والتعبير، وقد يصل الأمر إلى المشاركة الفعلية والفنية في التخطيط والتقييم والمراجعة.
نحن أمام مرحلة تغيِّر كليا من رسالة الإعلام لتضيف إلى الأخبار والترفيه والتثقيف والمراقبة تقديم الخدمات المتخصصة، كالتعليم والتدريب والإدارة والتسويق والتشاور والتصويت، والتواصل الشخصي أو الجماعي أو المهني وحتى الإداري والفني، وتطوير عمليات الرعاية الاجتماعية والصحية، والتعبير عن تخصصات أو مجموعات مهنية أو ثقافية أو إثنية أو دينية، وتكوين مجتمعات مرتبطة بالفضاء والإنترنت أو دعم المجتمعات والجماعات واللوبيات القائمة على أسس وأهداف مختلفة، كالبيئة والمهن والتخصصات، أو جماعات تتشكل لأهداف محددة، مثل مواجهة قانون أو موقف ما أو دعمه، أو التضامن مع قضية أو شخص، كما يجري هذه الأيام في قضية الصحيفة الدنمركية التي أساءت إلى الإسلام وشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم).
كان برنامج "البث المباشر" في الإذاعة الأردنية من المبادرات السباقة التي أتاحت في وقت مبكر المجال لطرح القضايا والمشكلات وتبادل الرأي والمعلومات بين المجتمع والجمهور وبين المؤسسات المعنية بها، وسررت كثيرا بالمشاركة والاهتمام بقضية الغابات التي خصص لها الزميل محمد الحويان في البرنامج التلفزيوني "يحدث اليوم"، فأن يتيح التلفزيون الرسمي فرصة واسعة لمعارضي قانون تقدمت به الحكومة، فهذا يؤكد الإدراك الإعلامي الجديد ومفاده أن التلفزيون لا يمكن أن يكون إلا تفاعليا.
ولكن لماذا نجحت المسابقات والبرامج الترفيهية تفاعليا أكثر من غيرها من البرامج؟ ولماذا لم تظهر بعد الخدمات التعليمية والمجتمعية في وسائل الإعلام؟ هي ظهرت وتطورت بالطبع على شبكة الإنترنت، ولكنها تحتاج أن تصبح جزءا من الصحف والإذاعات والتلفزيونات.
البدايات والمبادرات تكون دائما تجارب ومغامرات، ومازال البعد الاستثماري غير واضح في المجال الإعلامي الخدماتي، ويعتمد نجاح هذه البرامج والتحولات على كونها استثمارا ومطلبا مجتمعيا وجماهيريا. إن هذين العاملين سينعشان ويلغيان أيضا كثيرا من الاتجاهات في الإعلام والتنمية، وربما لا تقل المخاسر عن المكاسب، لكن الاستعداد المسبق والتفكير في المستقبل لا يجعل هذه الاتجاهات قدرا لا راد له، بل العكس هو الصحيح فإن الإدراك الواضح للمستقبل واتجاهاته يتيح المجال لصياغته. فالتخطيط والاستشراف ليس علمية تأمل واستبصار للغيب، ولكنه صناعة المستقبل وإدارته، فمنذ دخلت الأطباق اللاقطة، على سبيل المثال، في نهاية الثمانينيات كان واضحا لكل إنسان أن محطات التلفزيون تواجه تحديا استراتيجيا، ومنذ أتيحت الإنترنت للجمهور، في أوائل التسعينيات، كان واضحا أن وجهة جديدة تتشكل للحضارات والمجتمعات، ولم يكن ما يحدث اليوم مفاجأة لأحد إلا من يرغب هو شخصيا بأن يكون الأمر مفاجأة.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo