خلافا لسعي الاتحاد الأوروبي تصوير المقاطعة العربية والإسلامية للبضائع الدنماركية خصوصا، إضافة إلى نظيرتها النرويجية، بأنها انتهاك لقواعد منظمة التجارة العالمية الضامنة لحرية التجارة بين الدول الأعضاء في المنظمة، خلافا لذلك تستحق هذه المبادرة من حقيقة كونها شعبية أولا وأخيرا وصف الحق الذي لا نزاع حوله، قانونيا أو أخلاقيا، ناهيك عن كونها رد فعل حضاريا تماما إزاء الإهانة التي ألحقتها بنا -ومعنا كل من يكن احتراما للأديان على اختلافها- إحدى الصحف الدنماركية، بنشرها صورا مسيئة للرسول الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم.
مع ذلك، فإن الحفاظ على حقنا الحضاري هذا، والأهم من ذلك ضمان إتيانه الأثر المرغوب، يقتضي منا التنبه في مواقفنا وتصرفاتنا من زلل الوقوع في خطأين اثنين نوشك أن نقترفهما؛ بحيث ينقلب حقنا إثما.
لعل من أبلغ ما قيل في وصف الصور المسيئة التي تم نشرها في الدنمارك والنرويج، والآن في فرنسا، هو تعبير الكاتب سميح المعايطة بأن "استهداف الاديان والأنبياء والاستهزاء بهم هو تطرف وارهاب لا يقل في أثره ودلالاته عن تفجيرات الانفاق والسيارات المفخخة!"، لكننا في ردة فعلنا حاكينا في الواقع خطيئة التعميم التي مورست بحقنا على هذا الصعيد، عندما تم ويتم النظر إلى الإرهاب باعتباره "إسلاميا!" ابتداء، وأن كل المسلمين "إرهابيون!" إلى أن يثبت العكس. فحتى لو كان نصف المجتمع الدنماركي أو أكثر يؤيد نشر الصور المسيئة إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، سواء بذريعة حرية التعبير أو ازدراء للإسلام والمسلمين، فإنه يبقى جزء هام جدا من هذا المجتمع ممن يقدر الأديان، بما فيها الدين الإسلامي؛ فهل كانت تجب مراعاة مشاعر هذا الجزء عند حرق العلم الدنماركي مثلا، كما في غيرها من التصرفات القائمة على التعميم؟!
القضية ليست قضية عاطفية تتعلق بمراعاة المشاعر على الإطلاق، بل هي قضية سياسة اساسا، تتجسد في محاولة تعزيز موقف الدنماركيين المؤيدين للعرب والمسلمين وقضاياهم، كما كسب من يقفون منهم على الحياد. وللتدليل على هذه الضرورة الملحة، نستشهد بمثل من دولة أخرى تشارك إحدى صحفها في هجمة الإساءة ذاتها على سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، وهي النرويج. فقبل ايام قليلة جدا، كانت كريستين هالفورسن، وزيرة الاقتصاد والمال النرويجية، تعلن صراحة: "لم أشتر منتجات اسرائيلية منذ وقت طويل، ومن الطبيعي ان ادعم حملة حزبي لمقاطعة المنتجات والخدمات التي مصدرها اسرائيل". ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية من قبل حزب اليسار الاشتراكي الذي تنتمي اليه هالفورسن، هي مساهمة في حملة "قاطعوا إسرائيل" التي تشارك فيها منظمات نرويجية عدة تنديدا بـ"السياسة الاسرائيلية الفظيعة والمناقضة لحقوق الانسان بحق الفلسطينيين".
نكاد نجزم ان أيا من الهيئات العربية والإسلامية، الرسمية والشعبية، لم تبادر إلى إرسال رسالة تأييد أو شكر للوزيرة النرويجية أو أي من القائمين على حملة "قاطعوا إسرائيل" على موقفهم الداعم لحقنا، لكننا بتصرف غير مدروس قائم على انفعالية التعميم ربما نكون الآن قادرين على تقويض الحملة من اساسها! هنا تحديدا حبذا لو نستحضر نظرية المؤامرة، رغم أنه ليس مكانها، فنقول إن توقيت نشر الصور في النرويج هو الإساءة إلى جهود التضامن مع حق شعبنا في فلسطين، إذ لم تنفع على ما يبدو التهمة المعلبة والحاضرة أبدا، وهي "معاداة السامية"!
مرتبطا مع الخطأ السابق، وبناء عليه، يبدو الخطأ الثاني وهو وجوب التوقف عن جعل سلاح-حق المقاطعة الشعبية أعرج، ولربما دون أي فعالية.
فالمساس الأخطر برموزنا الدينية كان بتدنيس القرآن الكريم في غوانتنامو! وقبل ذلك وبعده، يظل دائما المساس بحرمة أرواح المسلمين وأجسادهم في غير سجن أميركي، معلن أو سري! ليحق لنا التساؤل: ماذا بقي من مقاطعة المنتجات الأميركية؟! كذلك، ربما كنا فعلا قادرين على مقاطعة البضائع الدنماركية، طالما أن أغلبها مشتقات ألبان، وليس ضمنها أدوية على سبيل المثال، وربما نكون قادرين على فعل الشيء ذاته مع النرويج، لكن هل نستطيع المضي قدما على هذه الدرب فنقاطع أي دولة تبادر إحدى صحفها –ويبدو أنها كثيرة- إلى الإساءة إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أو أحد رموزنا الدينية؟! وبشكل دقيق في هذه الحالة، هل نستطيع مقاطعة البضائع الفرنسية والألمانية التي قامت إحدى صحفها أمس بإعادة نشر ذات الصور المسيئة لسيدنا محمد؟!
الغاية من السؤال ليس الانتقاص من سلاح المقاطعة الفعال بالتأكيد في حمل رسالة شعبية
واضحة لا لبس فيها، حتى وإن لم تكن ذات أرقام اقتصادية مبهرة، لكن المطلوب منا هو الوصول إلى نقطة نتوقف عندها عن سياسة رد الفعل إزاء إساءة هنا وإساءة هناك، نسمع بها أو لا نسمع، سيما وأن الصحيفة الدنماركية نشرت الصور قبل ما يزيد على ستة أشهر! بعبارة أخرى، كيف نضمن عدم حصول إساءة مشابهة مستقبلا.
في خضم الغضب إزاء الإساءة التي لحقت بنا، يظل ضروريا التنبه إلى أصل المشكلة، فبحسب فلامينج روزيه (Flamming Rose) محرر القسم الثقافي والمسؤول عن نشر الصور المسيئة لسيدنا محمد في صحيفة "يلاندز بوستن" الدنماركية: "بدأت القضية في شهر أيلول الماضي حينما طلبت من 40 رسام كاريكاتور رسم النبي محمد كما يرونه لعرض الصور في كتاب لأحد كتاب الأطفال عن النبي محمد، ولم أطلب من أحد أن يتهكم على النبي"!
صحيح تماما أن الصحيفة ذاتها، وغيرها، ما كانت لتجرؤ على المساس بقائمة لا تنتهي من المحرمات التي تندرج تحت ذريعة "معاداة السامية"، لكن التبرير السابق، وأيا كانت درجة صدقيته، يبقى يحمل جوهر المشكلة التي ما برحنا نواجهها لكننا نتعامى عن التعاطي معها بشكل حقيقي وفعال، إنها الصورة المشوهة للإسلام والمسلمين، وحتما لنبينا الكريم كما عبر عنها رسامو الكاريكاتير السابقون. فمن دون خوض معركة الصورة وتصحيحها ستظل المقاطعة عرجاء، وسريعا سيتكسر هذا السلاح أمام حصون أول دولة نستورد منها أساسيات حياتنا اليومية، من غذاء ودواء وغير ذلك الكثير.
manar.rashwani@alghad.jo