العلاقة بين الإسلام السياسي والولايات المتحدة لم تعد لغزا محيرا أو مسألة بحاجة إلى فك طلاسم، ولسنا بصدد انتظار موقف رسمي أميركي معلن، فما يجري على الأرض تجاوز التيارين التقليديين في الفكر السياسي الأميركي تجاه الإسلام السياسي سواء التيار المتشدد صاحب فرضية صدام الحضارات والتهديد الإسلامي (هانتنغتون، برنارد لويس ودانيل بايبس، روبرت ساتلوف وجيمس فيليبس) أم التيار الذي يميز بين إسلام معتدل ومتطرف (جون سبازيتو، ستيفن زونز، انغل راباسا). فالواقع يثبت تماما ما يذهب إليه "روبرت ساتلوف" بأن معيار تعامل الولايات المتحدة مع الإسلام السياسي هو المصالح الأميركية في العالم.
المؤشرات من الواقع متعددة، فأميركا تقيم علاقات ودية وتحالفا وصداقة مع العديد من الحركات والدول الإسلامية في العالم، كما هو حاصل في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، والعراق (الأحزاب الإسلامية الشيعية ونوعا ما الحزب الإسلامي السني)، وفي أفغانستان (القوى الإسلامية أو المجاهدون المعارضون لطالبان والقاعدة)، ويقاس على ذلك التحالف مع السعودية (التي تتخذ من الإسلام هوية رسمية للدولة وتشريعاتها). في المقابل تدخل الولايات المتحدة في صراع وحروب مع الحركات والأحزاب والدول التي تعارض مصالحها كإيران وتنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني. وقلما نعثر على موقف أميركي واضح من الأحزاب الإسلامية في المغرب، التي ليست على تماس مباشر فوري مع المصالح الأميركية.
إذا قرأنا خريطة العلاقات الأميركية السابقة مع فعاليات الإسلام السياسي سنجد أنّ معيار الاعتدال والتطرف أو الموقف من الديمقراطية لا يمتلك وزنا حقيقيا في مواجهة معيار "المصلحة الأميركية"، على النقيض من دعاوى الأدبيات الأميركية التي تميز بين المعتدلين والمتطرفين من الإسلاميين. فعلى سبيل المثال: هناك دراسة، صادرة أخيرا من مؤسسة راند الأميركية المعروفة لبروفسور ومحلل كبير داخل المؤسسة وهو "أنغل راباسا"، تضع محددات للإسلام المعتدل، أبرزها عدم استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية، القبول بالديمقراطية، احترام حقوق الإنسان، احترام حقوق الأقليات والمرأة والحريات الدينية. وتشهد للمحددات السابقة خطابات وتصريحات رسمية أميركية، يضيف بعضها الموقف من إسرائيل والتسوية السلمية. المعايير السابقة ستفشل في اختبار العلاقة، باستثناء الشرط الأخير (أي إسرائيل)؛ فحزب الله هو حزب سياسي رسمي معترف به قانونيا، يعلن احترامه لحقوق الإنسان والحريات العامة، وممارسته تشهد له بذلك، كما أنه لا يلجأ إلى العنف في إدارة الصراع الذاتي، لكن توجهاته السياسية، ومنها الموقف من إسرائيل، لا تتوافق مع المصالح أو المنظور الأميركي، لذلك هو موجود على قائمة التطرف الأميركية! في المقابل فإن السعودية والعديد من الحركات الإسلامية لا تنطبق عليها المعايير السابقة، لكنها على علاقة قوية بالولايات المتحدة.
بالتأكيد هناك عوامل فاعلة تتحكم في هذه العلاقة، غير المصالح وإسرائيل، لكن هذه العوامل تبقى ثانوية، وإن كانت تصب - في المحصلة- باتجاه إمكانية قيام علاقة متبادلة بين الطرفين، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تولدت قناعة كبيرة وراسخة لدى الإدارة الأميركية والتيار الفكري والسياسي العام في واشنطن بأن سوء الإدارة السياسية والاقتصادية للنظم العربية الحالية هو المولد الرئيس للإرهاب، من خلال تصدير أزماتها إلى الخارج. والحل هو استبدال هذه النظم بنظم ديمقراطية غير فاسدة لحماية المصالح الأميركية، ولأن التيار الليبرالي والمدني ما زال ضعيفا في العالم الإسلام برزت معضلة البديل الإسلامي، التي انقسم الفكر السياسي الأميركي حولها إلى اتجاهين: مؤيد، ورافض منح الإسلاميين الفرصة للوصول إلى الحكم. إلاّ أن الاتجاه الرسمي، الذي عبر عنه أكثر من مسؤول، لا يمانع من وصول هذه الحركات إلى السلطة، وأبرز الأمثلة على ذلك خطاب ريتشارد هاس (في ديسمبر 2002) بعنوان (نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي) إذ يؤكد على عدم وجود ممانعة أميركية في التعامل مع حركات الإسلام السياسي في السلطة، إذا وصلت بطريقة ديمقراطية، حتى لو اختلفت مع بعض السياسات الأميركية.
في هذا السياق، وفي ذروة صعود حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي اليوم، ومباشرة عدد منها التعامل الواقعي مع الولايات المتحدة، وبروز مؤشرات على رسائل متبادلة خارج السياق الرسمي! فإن وصول حماس إلى السلطة يمثل اختبارا جديدا مختلفا ومحكا حقيقيا. فحماس تعلن التزامها بالديمقراطية بأبعادها كافة لكنها لا تعترف بإسرائيل. وأميركا والاتحاد الأوروبي يشترطان للتعامل معها الاعتراف بإسرائيل والتسوية، ويبدو أن هناك احتمالين لا ثالث لهما، إما أن تتراجع حماس وتقبل باللعبة الواقعية فنكون أمام مرحلة جديدة بامتياز"مرحلة ذهبية" تتوج بدخول الإسلام السياسي السني العملية السياسية في العراق وحماس في العملية السلمية، وإما إصرار حماس على مواقفها وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، وهنا ستبقى العلاقة على حالها اليوم، وسيظل السؤال الفلسطيني مؤججا لمشاعر العداء للولايات المتحدة ومولدا مختلف أطياف الإسلام السياسي، بالتحديد التي لا تنطبق عليها معايير "الاعتدال الديمقراطي"، ولا تفكر ابتداء بالتفاوض حول المصالح الأميركية إلا بلغة السلاح.
m.aburumman@alghad.jo