الاشتباكات غير المسبوقة في قطاع غزة بين فئات من حركة فتح، هي نذير خطر لا يمكن لقيادة فتح الاستمرار بتجاهله، حتى لو أن مسؤولية الأمن والنظام أصبحت منوطة بحكومة حماس برئاسة اسماعيل هنية.
في الوقت نفسه فإن تصريحات سمير مشهراوي، المقرب من محمد دحلان، بإلقاء المسؤولية على حكومة حماس مضللة اذا لم تأخذ قيادة فتح بجميع فئاتها مسؤولية لم شتات الحركة وضبط اجنحتها المتصارعة. أما الاتهامات الموجهة إلى دحلان ومشهراوي "بالتواطؤ" مع الإسرائيليين في جريمة تفجير سيارة قائد مجموعات المقاومة الشعبية فهي خطيرة، وإن كانت تفتقد إلى دلائل.
التحول في موقف المقاومة الشعبية التي كانت حتى وقت قريب تحت تأثير دحلان، مثير للاهتمام ونجد جذوره في صيف عام 2004 عندما قام دحلان بقيادة "تحرك" تحت شعار المطالبة"بالاصلاح"، دافعا إلى السطح انقساما داخل الحركة في القطاع أدى الى افراز في حينه، معسكرين، الأول مؤيد لدحلان، والثاني للزعيم ياسر عرفات، وان كانت عدة تيارات انضمت تحت لواء سمي حينها بأنصار عرفات لأسباب متعددة منها مصلحية واخرى شكلت تعاطفا حقيقيا مع"ابو عمار" في مواجهة ما بدا وقتها بأنّها محاولة من دحلان لفرض نفوذه على حركة فتح في القطاع.
بعد ذلك تصالح ابو عمار ودحلان، ووفق ما يقوله دحلان لمن يعرفونه، بما في ذلك كاتبة هذه السطور فإن "ابوعمار" قال له عند وداعه، قبل مغادرته الى باريس بأنه - أي عرفات- يثق بدحلان.
لا شك ان دحلان يملك نفوذا قويا في غزة، وقد حاول جهده لتقويض نفوذ الأجنحة الأخرى، وكذلك نفوذ حركة حماس, يعود نفوذ دحلان إلى قيادته لسنوات عدة منصب رئيس الأمن الوقائي، وما مثله الجهاز من سطوة أمنية.
لكن من الخطأ فهم نفوذ دحلان فقط من زاوية سطوة جهاز الامن الوقائي، فدحلان ابن غزة، كان من أهم قيادات انتفاضة عام 1987، وعرف بشجاعته"في معركة الشوارع"، وأبعد بالتالي وذهب إلى تونس حيث أصبح مقربا من القائد العسكري لفتح خليل الوزير"ابوجهاد"، عندما عاد دحلان لغزة كان لا يزال يحتفظ بسمعة عالية كابن المخيم المناضل الشجاع وتجمع حوله المئات من القيادات الشابة.
لكن اوسلو، بما مثله من خضوع لشروط اسرائيلية تفرض على"اعضاء السلطة الجديدة" من تعاون مع اسرائيل، غير متكافئ وحتى دوني بطريقة"مهينة" للمناضلين، خلق حالة من الاحباط السياسي والشعور بأنّ مرحلة النضال قد انتهت، فانخرط دحلان باللعبة الجديدة بقوة وبمهارة، فيما ساهم التعاون الرسمي الامني مع اسرائيل، بإلقاء الشكوك حول سمعته اضرت به كثيرا.
وبرزت معالم الاثراء على دحلان، والكثيرين من القيادة الشبابية للانتفاضة الاولى، واختلطت الاوراق، واصبح النزاع على النفوذ هو العامل المسيطر على عقلية مناضلين سابقين ومسؤولين جدد في سياق كيان محزن"محاصر وتحت احتلال مستمر".
نترك للجنة التحقيق المستقلة، التي نأمل بابتعادها عن الفئوية، التوصل الى نتائج. لكن من الواضح أنّ هزيمة فتح في الانتخابات قد أدت الى تعميق النزاع الداخلي في عملية تدميرية غير مسبوقة للحركة، اي ان حركة فتح بدأت وبتسارع بتدمير نفسها من الداخل.
لا تستطيع حكومة حماس مساعدة"فتح" في وقف عملية التدمير الذاتي، وسترتكب حركة"فتح" جريمة بحق نفسها وبحق الشعب الفلسطيني اذا استمرت بهذه العملية، وأقدمت على خطوات تكتيكية هدفها احراج حكومة حماس.
ان موقف مشهراوي، وان كان له الحق في الطلب من الحكومة بالتحقيق بالاشتباكات التي وقعت اثر الجريمة المأساوية لا يدل على استعداد حركة"فتح" لتحمل مسؤولياتها تجاه الحركة نفسها وتجاه أمن ووحدة الشعب الفلسطيني.
لا شك أنّ حكومة حماس تواجه اول تحد لها كحكومة، لكن لا يعني ذلك ان الحكومة تستطيع أن تتحمل هذه المسؤولية وحدها.
إذ إنّ الخلافات الفتحاوية، التنظيمية والسياسية، لا يمكن حلها الا داخل الحركة. الشواهد لحد الآن تنبئ بتشرذم خطير واحتمال انشقاقات جدية، قد لا يمكن تجنبها، لكن اذا استطاعت قيادات قوية أن تأخذ قرارات حاسمة فيمكن على الاقل تجنب تذويب الحركة.
هنا تذهب الأنظار إلى الأسير مروان برغوثي الذي يملك المصداقية، والشعبية الكافية للتأثير في وقف الوضع المتدهور.
أصدقاء لمروان يقولون: إنه يشعر بالاسى على وضع الحركة، ويقولون: ان قيادة حركة فتح استعملته خلال الانتخابات دون ان تغير من منهجها. فالهدف كان استغلال تأثيره على الشارع واستهلاكه في نفس الوقت.
قيادات فتحاوية معارضة لخط القيادة الحالية، تقول: إنّ قدرة الرئاسة، من خلال الاتصالات مع الاسرائيليين، على السيطرة على الأسماء المسموحة لها بزيارة مروان، ساهم ذلك في"تضليل" مروان وخداعه، وأنه الآن"يعي ما حصل".
تبقى"فتح" هي الخاسر الأكبر من"المناورات الفتحاوية" قبل وخلال وبعد الانتخابات، لكن المأساة لفتح والشعب الفلسطيني ستكون كارثية إذا حاولت أطراف من فتح استغلال"الفلتان الامني الفتحاوي" لضرب مصداقية حكومة اسماعيل هنية.
يجدر الاشارة هنا أن حكومة حماس، بغض النظر عن اي خلافات ايدلوجية او سياسية معها، تتمتع بمصداقية وطنية تمنحها هامش اكبر من الحكومات السابقة لاتخاذ قرار بهدف ابعاد المظاهر المسلحة عن الشوارع، اذ انه لا يوجد شكوك، بأنها تطلب ذلك ليس بهدف تجريد المقاومة من السلاح.
بالطبع فإنّ حكومة حماس ايضا تتحمل عبء الاثبات أنّ تحركاتها وقراراتها لن تهدف إلى الاسراع بتفتيت فتح، اي انها يجب أن تبرهن أنها لن تستغل الأزمة القائمة لمصالح فئوية، عندئذ ستكون هي أيضا الخاسرة بالمعنى الاستراتيجي على المدى البعيد، عدا عن خطر أي تحرك فئوي-مصلحي تقوم به الحكومة على مستقبل الشعب الفلسطيني.
lamis.andoni@alghad.jo