إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



الانتخابات البرلمانية تشرذم الخارطة السياسية

الثلاثاء 4/4/2006
برهوم جرايسي- المشهد الاسرائيلي

*الانتخابات تفرز برلمان مشرذم مثقل بالمهمات مع غياب الرؤية الواضحة *تشكيل الحكومة سيستغرق تقريبا كل الفترة القانونية بسبب حالة الشرذمة* اللاعب الأكبر في هذه الانتخابات نسبة التصويت*

أفرزت الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية شرذمة اضافية للخارطة السياسية، وما بدى في انتخابات العام 2003، وكأنه بداية لاستعادة قوة الحزبين الاكبرين التقليدين بعد انهيارها، تم نسفه في هذه الانتخابات، ليظهر حزب "كديما"، خليط من الحزبين، وبقوة هزيلة، من ناحية، وتثبيت محدودية قوة "العمل"، وانهيار منافسه التاريخي حزب الليكود من ناحية أخرى.
فقد تم توزيع مقاعد الكنيست الاسرائيلي الـ 120 على 12 كتلة برلمانية، ولكنها في المجمل تضم 19 حزبا مسجلا، واكبر هذه الاحزاب "كديما" لم ينجح حتى في السيطرة على ربع المقاعد، وحصل على 29 مقعدا، وهذا ما سيلزمه بتشكيل ائتلاف معقد، فيه على الاقل اربعة شركاء، والقاعدة التي تستند للتجربة السياسية في اسرائيل، تقول انه كلما كثر الشركاء في الحكومة كثرت قلاقلها الداخلية وتبقى في حالة عدم استقرار، وفي مجتمع كالمجتمع الاسرائيلي، غير المتجانس في غالبيته، تزداد حدة الصراعات الداخلية في عدة اتجاهات، وهذا ما سيظهر لنا بعد تشكيل الحكومة التي على ما يبدو ستكون برئاسة ايهود اولمرت.
ما نلمسه حتى الآن، ان هذه الانتخابات تشكل نقطة تحول في مسار الخارطة السياسية الاسرائيلية، التي بقيت طوال سنين رهن الحزبين التقليديين، "العمل" و"الليكود" اللذين حتى انتخابات العام 1992 كانا يسيطران بالمعدل على ما بين 75 الى 85 مقعدا وأكثر، من اصل 120 مقعدا، ولعدة اسباب سياسية ومنها تلك التي تتعلق بطريقة الانتخاب، فقد هبطت قوة الأحزاب الكبيرة، فمثلا في هذه الانتخابات عدد مقاعد الاحزاب الثلاثة الكبيرة، "كديما" و"العمل" و"الليكود"، تساوي نصف عدد مقاعد الكنيست، 60 مقعدا.
لقد شهدنا في هذه الانتخابات انهيارات غير مسبوقة بحجمها وكثرتها، وهذا استمرار لما شهده الكنيست المنتهية ولايته، الذي فرض رقما قياسيا بعدد الانشقاقات والتشققات في الأحزاب والكتل البرلمانية المختلفة، وفي المقابل ظهور كتل بشكل مفاجئ، والنتيجة الأبرز هو انهيار حزب الليكود، الذي عاد الى حجمه الذى كان عليه في مطلع سنوات الخمسين من القرن الماضي، مع بدايات اسرائيل، وحين كان اسمه حزب "حيروت"، وهذا بعد الانشقاق الذي واجهه قبل اقل من ستة اشهر ونجم عنه تشكيل حزب "كديما"، وكان الليكود حصل في الانتخابات الماضية على 38 مقعدا.
وبالتالي فقد اصبح حزب "الليكود" اليوم الكتلة الرابعة، وهذا ايضا نتيجة ان "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو نافس في هذه الانتخابات على اصوات اليمين المتطرف، حيث واجه "يسرائيل بيتينو"، بقيادة المتطرف افيغدور ليبرمان، الذي قفز دفعة واحدة من 4 مقاعد الى 11 مقعدا، وحزب هئيحود هليئومي- المفدال"، وابعد الليكود بذلك عن دائرته مئات آلاف المصوتين من مركز الخارطة السياسية.
ولكن الشرذمة الأكثر حدة نجدها في اتساع رقعة التقاطب السياسي بين التيارات المختلفة، فعلى وقع انهيار الليكود ارتفعت قوة أحزاب اليمين المتطرف، من 13 مقعدا في الكنيست السابق، الى 20 مقعدا، والحديث يجري عن يسرائيل بيتينو وهئيحود هليئومي والمفدال بشقيه، وهذا عدا عن وجود نواب يمين متطرف في احزاب الليكود وشاس وحتى كديما، وهذا ما سيتضح أكثر في الصراعات البرلمانية المقبلة، خاصة عندما يحين طرح القضايا السياسية الحارقة.

نسبة التصويت

بالامكان القول ان اللاعب الاكبر، أو حتى القوة الأكبر في هذه الانتخابات كانت نسبة التصويت، التي هبطت لأول مرّة في تاريخ اسرائيل الى مستوى 63%، في حين كانت في الانتخابات السابقة 69%، وايضا تلك كانت هبوطا غير مسبوق في السياسة الاسرائيلية، مما يدل على عهد جديد في المشاركة الاسرائيلية في العملية الانتخابية، فمثل هذه النسب في دول العالم تعتبر نسب عالية، ولكنها في الحالة الاسرائيلية تعتبر شاذة، خاصة حين نرى انه حتى انتخابات العام 1999، كانت نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية تتراوح بالمعدل ما بين 77% الى 82%، ولهذا فإننا نلمس ان هذا الحجم من الهبوط لم يأت من فراغ، بل كانعكاس لحالة الاحباط السياسي التي تعم الشارع الاسرائيلي، الذي على ما يبدو بدأ يلمس انهيار كل الخيارات التي تطرحها امامه المؤسسة السياسية للخروج من دائرة الصراع، والأزمة المزمنة.
فحتى في هذه الانتخابات لم يطرح أي من الاحزاب الكبيرة برنامجا سياسيا مقنعا، وبالامكان القول ان الناخب الاسرائيلي كان في النهاية مرغما على اختيار برنامج اللابرنامج، لأنه حتى حزب "كديما" طرح خطة سياسية من حيث المبدأ، "الانسحاب احادي الجانب"، ولكن من دون تفاصيل، لأن أي تفصيل كان سيطرحه كان سيجد معارضة من اطراف كثيرة، ويغوص في مأزق انتخابي، قرر الابتعاد عنه.
كذلك فإننا لم نسمع خطابا سياسيا واضحا من حزب "العمل" الذي تماوج بين عدة خيارات، أما الليكود فقد تقلب في برنامجه عدة مرات في اوج الحملة الانتخابية، فمثلا في احدى الفترات عاد الى سياسة اللاءات الاسرائيلية المعروفة حتى سنوات الثمانين، وسرعان ما سحب هذا الخطاب، ليطرح من جديد برنامجا ضبابيا كان من الصعب معرفة حدوده.
ما من شك انه الى جانب العامل السياسي الأقوى لتراجع نسبة التصويت، هناك عوامل أخرى، مثل الانطباع السائد الذي فرضته وسائل الاعلام الاسرائيلية حول فساد الجهاز السياسي، في كل اجنحته، كذلك هناك معادلة واقعية تقول انه كلما كثر عدد ذوي حق الاقتراع اتسعت في المقابل حلقة الممتنعين عن المشاركة.
لقد ركز المحللون في هذه الانتخابات على حالة اللامبالاة، وان هذه الحالة نجدها اكثر بين الجيل الشاب، واعتبروها المسبب الأكبر لنسبة التصويت المنخفضة، ولكن هذه مزاعم لا يمكن تقبلها في الحالة الاسرائيلية، لأن هذه ظاهرة معروفة في الدول التي تشهد سكينة ومستوى معيشي مقبول الى جيد، وهذا ما لا تنعم به اسرائيل.
ولكن نسبة التصويت لم تكن متساوية في جميع القطاعات، ففي حين ان النسبة العامة كانت 63%، فإنها بين المستوطنين في الضفة الغربية وبين الاصوليين اليهود (الحريديم) بقيت على نسبها المرتفعة جدا، حيث تصل الى 90% وأكثر، وفي المقابل فإن النسبة انخفضت بين العرب الى 57% او اكثر بقليل، وهكذا تم الابقاء على الفجوة القائمة منذ سنوات بين المجتمعين العربي واليهودي، لا بل في هذه الانتخابات تقلصت بحوالي 2%.
ولكن قوة العرب 12% من بين ذوي حق الاقتراع، بقيت على حالها بين المقترعين فعليا، لأن 6% من الاصوات بين اليهود احترقت بفعل عدم اجتيازها نسبة الحسم، وهذا ما لم يكن في الشارع العربي، حيث وصلت القوائم الثلاث الى الكنيست ممثلة بعشرة مقاعد (اقرأ النتائج في مكان آخر من هذا العدد).
والمتضرر الأكبر من هذه النتيجة كانت الاحزاب الكبيرة، وخاصة "كديما"، الذي كما كان متوقعا، لم يكن لديه الجهاز التنظيمي الكافي، والكوادر الناشطة الكافية لاحضار الناخبين الى صناديق الاقتراع، وفي المقابل فإن المستفيد الأكبر من نسبة التصويت المنخفضة هي الأحزاب الصغيرة التي تمثل قطاعات مختلفة، مثل الاصوليين اليهود (الحريديم)، وقوائم اليمين التي مثلت قطاع المستوطنين، وحتى المتقاعدين، الذين ما كان بامكانهم الحصول على هذا التمثيل الفجائي (7 مقاعد) لولا نسبة التصويت المنخفضة.
أما عند العرب فإن جميع الاستطلاعات العلمية السابقة دلّت على ان العرب سيحظون بهذا التمثيل في كل حالة من حالات نسب التصويت.


بين الاقتصاد والسياسة

بطبيعة الحال فإن الجانبين الاقتصادي والسياسي مرتبطان بالتأكيد، ولكن الناخب الاسرائيلي في نهاية المطاف، وحسب النتائج الظاهرة، فقد فضّل اللجوء الى رموز السياسة والقوة، على رموز الاقتصاد الاجتماعي، التي وعدته باخراجه من ازمته الاقتصادية، وهذا ليس جديدا، لا بل هذا الخيار التقليدي لدى الناخب الاسرائيلي، وهذا ايضا ما اثبتته استطلاعات الرأي التي تأكدت في النتائج النهائية.
ولكن في المقابل فإن ظهور قائمة المتقاعدين، بهذه القوة، تعبر عن يأس الناخب الاسرائيلي من طروحات حزب "العمل" في القضايا الاقتصادية الاجتماعية، فلأول مرة في اسرائيل تظهر قائمة بهذا الحجم كل برنامجها اقتصاديا اجتماعيا، فهو يدعم شريحة المتقاعدين حصرا، ولكن بالتأكيد ستكون الى جانب تعديلات جدية في السياسة الاقتصادية الاسرائيلية لتحسن اوضاع الشرائح الفقيرة والضعيفة، التي زادت معاناتها أكثر في ظل السياسة الاقتصادية التي انتهجتها حكومتا اريئيل شارون في الولاية ونصف الولاية السابقتين، بقيادة بنيامين نتنياهو.
ورغم ذلك فإن هذا الملف، الاقتصادي، سيكون اكثر من أي وقت مضى، حلبة صراع جدية في العمل البرلماني، وايضا في داخل أي حكومة سيتم تشكيلها، فنظريا نحن امام 59 عضو كنيست، سيؤيدون انتهاج سياسة اقتصادية تحسن من وضعية الشرائح الفقيرة، مكون من حزب العمل 19 نائبا، وكتلتي "الحريديم"، شاس ويهدوت هتوراة، 18 نائبا، وحركة ميرتس، 5 نواب، و10 نواب من الكتل الثلاث الناشطة بين العرب في اسرائيل، خاصة وان العرب هم الأكثر تضررا من السياسة الاقتصادية.
ونؤكد ان هذه "جبهة" نظرية على الورق، وليس هناك ما يضمن وحدتها لرفض استمرار السياسة الاقتصادية المنتهجة، وبالامكان احداث شرخ كبير فيها، من خلال تعميق سياسة التمييز، مثل اسكات "الحريديم" بميزانيات خاصة، كما جرت العادة على مدى 58 عاما، أو أن يتم استغلال أي أزمة سياسية قادمة للضغط من اجل تحييد الملف الاقتصادي ريثما يتم الخروج من الأزمة السياسية او الأمنية، وايضا كما جرت العادة.

اسابيع من الفراغ السياسي

الاسابيع المقبلة على اسرائيل ستكون اسابيع الفراغ السياسي، إذ ستنشغل اسرائيل في تشكيلة الحكومة القادمة، وقليلة هي الحكومات التي تم تشكيلها في الفترة القانونية الأولى، 28 يوما، وغالبيتها احتاجت لفترة اضافية من 14 يوما، وهذا سيناريو شبه مؤكد على ضوء حالة التشرذم، ولكن سير المفاوضات، ومن ثم شكل توزيع الحقائب في الأحزاب المختلفة سيترك اثره على شكل عمل الكنيست في ولايته الجديدة، وسيبرز طبيعية الصراعات الشخصية، التي لها وزنها في الصراعات البرلمانية السياسية.
على ما يبدو فإنه لن يكون امام الرئيس الاسرائيلي موشيه كتساب حتى مطلع الاسبوع القادم، إلا تكليف رئيس حزب "كديما"، ورئيس الحكومة بالوكالة، ايهود اولمرت، بتشكيل الحكومة القادمة، ورغم ما نشهده من مناورات حزبية وسياسية، إلا ان حكومة اولمرت ستظهر الى الملأ حتى منتصف الشهر القادم ايار/ مايو، وإن نجح قبل ذلك فإن هذا سيعتبر انتصارا له.
هناك الكثير من المهمات والاهداف، التي ستقف امام اولمرت حين يبدأ بتشكيل الحكومة القادمة، ولكن باعتقادي فإن هدف اولمرت الأول سينصب في مكانته الشخصية، فهو الآن سيبدأ مرحلة رئيس حكومة فعلي وليس بالوكالة، وهو لم يُعرف في الحلبة السياسية، حتى قبل اشهر قليلة جدا، كشخصية رقم واحد، فهو اقرب ليكون شخصية ظل، ولهذا عليه السعي لتشكيل ائتلاف حكومي يساعده على فرض "هيبته" على الحكومة والائتلاف والشارع الاسرائيلي، ويكون قادرا على مسك زمام الأمور.
من المستبعد جدا ان يسمح انخراط كتل اليمين المتطرف في الحكومة، لاولمرت بتسيير عمل حكومي متجانس، فاقطاب هذا اليمين هم الذين قادوا حملة المعارضة ضد رئيس الحكومة اريئيل شارون، وعملوا على تفكيك حكومته، وبدء مسار انهيارها والتوجه الى انتخابات مبكرة، وهذا جرى حين كانت قوة هذه الاحزاب 13 نائبا من اصل 120 (مدعومين من تكتل المتمردين في الليكود)، مقابل كتلة ليكود من 40 نائبا، أما اليوم فإن قوة اليمين البرلمانية ازدادت بأكثر من النصف، مقابل ضعف الحزب الأول "كديما" الذي لديه 29 نائبا.
وما يظهر حتى الآن هو ان الملف السياسي، أو بالأحرى البرنامج السياسي لحزب "كديما"، لن يكون عائقا امام تشكيلة الحكومة، خاصة على ضوء التقارير التي تنشر في اسرائيل، وتعلن ان برنامج "كديما" يحظى بدعم الادارة الامريكية، كما ان السياسة الاقتصادية سيتم ايجاد صيغة ضبابية لها، تسمح بالتعايش المصطنع بين جميع الكتل المؤتلفة التي اغدقت على ناخبيها بوعود "الثورة الاجتماعية".
إن الصراع الأكبر في تشكيل الحكومة القادمة سيتمحور حول توزيعة الحقائب الوزارية بين الأحزاب، ومن ثم توزيع "الغنائم الوزارية" في داخل الأحزاب نفسها.
وهذا ما يضمن تفاعلا حزبيا شديدا في الاسابيع المقبلة، لنرافقه خطوة بخطوة.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر