على الرغم من إخفاق الحكومات العربية في مواجهة المشروع الصهيوني وفي مساندة الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه وإقامة دولته إلا أنها نجحت – بامتياز- في توظيف"القضية الفلسطينية" كذريعة أمنية لإعلان حالة الطوارئ وعسكرة الحياة السياسية بحجة مواجهة التحدي"الصهيوني"!
والدعوى التي كانت النظم العربية الثورية(بدرجة رئيسة) تلوّح بها - في وجه المطالب الديمقراطية الشعبية- تتمثل بأنّ الدول العربية في حالة حرب، وأنّ مواجهة"العدو" الخارجي تتطلب رصا في الصفوف ووحدة وطنية داخلية، وهو ما لا توفره الديمقراطية التي تفتح المجال للاختلافات ولنمو معارضة سياسية، كانت دوما - في رؤية الحكومات- موضع ريبة وشك.
إلاّ أنّ استمرار مسلسل التراجع وانغلاق"الأفق العسكري" في مشروع المواجهة العربية مع إسرائيل انعكس على الأوضاع الداخلية، فخسرت الحكومات العربية"الورقة الفلسطينية" كذريعة لتأجيل الإصلاح. وترافق ذلك مع"الدعوة" الأميركية للديمقراطية وتقارير التنمية الإنسانية التي كشفت فشل الحكومات العربية في سياق التنمية وإدارة السياسة الداخلية، بما أعطى المعارضة ودعاة الإصلاح متنفسا جديدا لمواجهة حالة"العسكرتاريا" الزائفة للأوضاع السياسية الداخلية والمطالبة بالإصلاح والديمقراطية.
أردنياً؛ لا تزال للقضية الفلسطينية"نكهة" خاصة، إذ تلقي بظلال واسعة على معادلة الإصلاح السياسي وما يرتبط بها من جدال ونقاش داخلي ليس بين الحكومة والمعارضة فحسب، بل بين النخب السياسية المتصارعة وغير المتوافقة على مشروع الإصلاح ولا على مضامينه!
ففي رؤية تيار عريض فإنّ الإصلاح السياسي وتوسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار وسن قانون انتخابات عصري يتجاوز مبدأ الصوت الواحد ويرسخ القائمة النسبية أو الحزبية سيؤدي إلى مخاطر كبيرة على الهوية الوطنية الأردنية، وسيغير بنية البرلمان وهويته ما يشكل خطرا محدقا على مستقبل الأردن وسيمثل تأكيدا على فكرة "الوطن البديل".
ووفقا لهذا التيار فإنّ الإصلاح السياسي لا بد أن يتأجل إلى أن تتبدّى مخرجات الأوضاع داخل الأراضي المحتلة وتتضح الصورة كاملة بما يسمح بتعريف صيغة العلاقة المطلوبة بين الأردنيين والفلسطينيين. وإلى أن يتحقق ذلك فلا بد من اعتماد استراتيجية"شراء الوقت" إلى حين الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وضمان إقامة دولة فلسطينية مستقلة أولا قبل النظر بصيغة العلاقة الأردنية- الفلسطينية، ما يعني الإبقاء على التوازنات السياسية الداخلية الحالية وفي مقدمتها أفضلية مبدأ الصوت الواحد في قانون الانتخابات.
على الجهة المقابلة، ثمة نخبة سياسية أخرى، ذات بعد إقليمي تمثل مصالح البرجوزاية الفلسطينية المنافسة للحرس القديم، تختزل مشروع الإصلاح السياسي والإداري واستحقاقاته بشعار"الحقوق المنقوصة" للأردنيين(من أصول فلسطينية) بدعوى أنّهم محرومون من المساواة في فرص التعيين في مؤسسات الدولة وفي المناصب العليا، وأنهم يعانون من خلل في تمثيلهم السياسي النيابي إذ يغلّب قانون الانتخابات من الاعتبار "الجغرافي" على حساب العامل "الديمغرافي" (الكثافة السكانية).
وفي السياق العام تتفق مجموعة من النخب من تيارات سياسية وفكرية متعددة على عرقلة أي مشروع إصلاحي يعطي الفرصة للإسلاميين لمزيد من المكاسب والنفوذ السياسي. وتدافع هذه المجموعة عن موقفها الحاد من الحركة الإسلامية بحجج متعددة، منها عدم جدية الطرح الديمقراطي الإسلامي أو عدم كفاءة وأهلية الإسلاميين للعمل السياسي الرسمي وتشكيل الحكومة في حال الحصول على الأغلبية، لكن المسكوت عنه في خطاب هذه النخب هو الشعور بالعجز والضعف أمام قوة الإسلاميين في الشارع، وتخشى هذه النخب في ظل أي استحقاق إصلاحي حقيقي أنها لن تجد موضع قدم في مركز الثقل السياسي في النظام في ظل النفوذ الإسلامي الشعبي الطاغي.
في الحقيقة أزمة "الإصلاح السياسي" - في جزء كبير منها- تتمثل في هذه النخب المتصارعة، إذ تقزّم مفهوم الإصلاح ومقتضياته من مطالب مجتمعية ملحة إلى تعبيرات مصلحية جهوية ونخبوية، ومن مداخل الإصلاح الحقيقي إلى مداخل أخرى تتناقض مع مشروعية وجدوى الإصلاح ذاته. وكأنّ الإصلاح هو مطالب نخبة ضد نخبة أو أن الهوية الوطنية الأردنية لا تقوم إلاّ على تعزيز التناقضات الاجتماعية والسياسية!
والمفارقة الكبرى تتمثل بأنّ الإصلاح يقوم ابتداء على تجاوز العوامل الديمغرافية والجغرافية لتأكيد مفهوم"المواطنة" وسيادة القانون. وتغيير قانون الانتخابات ليؤدي إلى برلمان فاعل وقوي يمثل حجر الرحى بالنظام السياسي لا يعني أفضلية شريحة مقابل أخرى لكنه يعني تنافسا بين برامج حزبية وسياسية وصولا إلى وجود حزب للأغلبية وحكومة تمتلك برامج وتطورها، ومعارضة تقدم برامج ظل وتراقب أداء الحكومة.
والإصلاح معناه؛ تكريس للحريات العامة، ترسيخ وتجذير لحقوق الإنسان السياسية والمدنية في قواعد النظام وأسسه، المساواة أمام القانون، سيادة معيار المهنية والكفاءة والجدارة في الوظائف العامة بعيدا عن الانتماءات والاعتبارات الأولية، القدرة على مواجهة ومحاربة الفساد والشفافية في المال العام. فمن بالله عليكم يمتلك ضميرا وطنيا حيا يرفض هذه المعاني ويصر على معارضة الإصلاح والتذرع بحجج هنا أو هناك لممانعة استحقاقه؟!
ما يحتاج إليه مشروع الإصلاح السياسي في الأردن اليوم، أو بالأحرى ما يفتقده، - كي يخرج من الحلقة المفرغة في خطاب النخب المتصارعة ومصالحها- هو أن يتشكل خطاب سياسي وثقافي وطني- ليبرالي يؤكد على معاني الإصلاح ومقتضياته الحقيقية ويقدم رؤيته من خلال وثائق وكراسات، ويبني قاعدة اجتماعية تدعم هذا الخطاب وتطالب به، وتتحول إلى حركة مجتمعية- مدنية تمثل رافعة حقيقية وفاعلة للإصلاح السياسي، تتشكل من شبكة من مؤسسات المجتمع المدني والكتاب والنخب المثقفة والسياسيين الذين يؤمنون حقاً بأهمية الإصلاح وضرورة عدم تأجيل استحقاقاته أو وضعها رهينة حجج وذرائع واهية.
m.aburumman@alghad.jo