"الدولة" في مقالات الإسلاميينالاربعاء 10/5/2006 محمد ابو رمان- "الغد"- الاردنية
على صعيد مواز لصعود الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي اليوم تطرح العديد من التساؤلات حول مفهوم "الدولة الإسلامية" وسماتها العامة؛ فيما إذا كانت دولة دينية أم مدنية ذات نكهة إسلامية، وإذا ما كانت "توتاليتارية" شمولية أم ديمقراطية تعددية؟ وفي السياق ذاته تطرح تساؤلات مختلفة ومنوعة حول مسألة الحريات العامة وحقوق الإنسان وحق المعارضة والحرية الدينية وتطبيق الحدود والعلاقة مع العالم الغربي والحريات الخاصة والشخصية، وفيما إذا كان النموذج الأقرب إلى هذه الدولة هو حكم إيران أم طالبان أم السعودية أم النموذج التركي الجديد؟.. لعل كتاب عبد الإله بلقزيز "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر" (مركز دراسات الوحدة العربية 2002) يمثل أحد أبرز الدراسات التي تقدم رصدا جيدا لتطور مفهوم الدولة في وعي النخبة الإسلامية حديثا ومعاصرا ابتداء من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني مرورا بمحمد عبده ورشيد رضا وعلي عبد الرازق وصولا إلى سيد قطب ومحمد قطب ثم القرضاوي والغنوشي وعبد السلام فرج وعبد السلام ياسين وغيرهم. يرى بلقزيز ابتداءً أنّ هنالك أربعة خطابات إسلامية رئيسة حول الدولة الإسلامية؛ الخطاب الإصلاحي، الخطاب السلفي الشرعي، الخطاب الشمولي (الحاكمية) وأخيرا الخطاب الإخواني. وفي تقديري فإنّ هذه الخطابات بالفعل تمثل المساقات العامة لمفهوم الدولة في وعي النخبة الإسلامية من جهة، وتقدم ملامح عامة لتطور الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر ومراحله (وإن كان هناك تداخل بين هذه المراحل ومضامين الخطابات) من جهة أخرى. الخطاب الإصلاحي الأول جاء في قلب المواجهة مع الاستعمار الغربي وفي سياق تنامي إدراك النخبة الإسلامية المستنيرة بالفجوة الحضارية الواسعة. وهي الملاحظة التي يلتقطها علي أومليل في كتابه "الإصلاحية العربية والدولة الوطنية" (المركز الثقافي العربي 2005)؛ إذ يرى أنّ الخطاب الإصلاحي الأول تمركز حول قناعة رئيسة وهي أنّ سبب تأخر المسلمين يعود إلى الاستبداد وغياب المؤسسات السياسية الحديثة وأن أوروبا نهضت وتميزت بفعل مؤسساتها السياسية وتقييد السلطة المطلقة لحكامها، ما دفع إلى تأكيد هذا الخطاب على ضرورة إقامة الدولة المدنية الحديثة التي تحقق العدل والشورى (كمرادفات إسلامية للديمقراطية)، والمطالبة بإصلاحات سياسية بنيوية. أبرز تجليات الفكر الإصلاحي الأول تظهر بشهادة رفاعة الطهطاوي على الفجوة الحضارية بين أوروبا والعالم الإسلامي وعلى أهمية تطوير الحياة العامة والسياسية في المشرق العربي، وفي جهاد الأفغاني السياسي من أجل الشورى والدستورية كعوامل ممانعة وقوة داخلية في مواجهة الخطر المحدق، وفي دعوة خير الدين التونسي وابن أبي ضياف إلى "الدستورية"، وفي تأكيد محمد عبده على الصيغة المدنية للدولة الإسلامية، وبمرافعة عبد الرحمن الكواكبي ضد الاستبداد. الخطاب الثاني "السلفي الشرعي"، وفقا لبلقزيز، يقدمه محمد رشيد رضا، الذي وإن كان يمثل في مراحله الأولى امتدادا للفكر الإصلاحي إلاّ أنه عاش ليشهد مرحلة تاريخية جديدة، عنوانها إلغاء الخلافة الإسلامية، وصعود الدعوات العلمانية، بما انعكس سلبا على خطابه - أي رشيد رضا- من خلال العودة إلى مفهوم الخلافة في التراث السياسي الإسلامي واستعادة منظومة المفاهيم والأدوات المنهجية المرتبطة به، وهو ما يعده عدد من الباحثين والدارسين للفكر الإسلامي بمثابة "القطيعة" مع الفكر الإصلاحي الأول وتأكيده على الدولة المدنية الحديثة. بصفتي أحد الدارسين لرشيد رضا وخطابه السياسي، ومع الإقرار أنّه يمثل في مرحلته الأخيرة تراجعا عن الوهج الإصلاحي للإمام محمد عبده، إلاّ أنّ اختزال نظرية رشيد رضا السياسية في كتاب "الإمامة العظمى" فيه جور وظلم للرجل، الذي يقدم طرحا سياسيا في كثير من مؤلفاته - وبالتحديد مجلة المنار- وفي مواقفه يتجاوز التراث الإسلامي ومقولاته، ولا يقف عند التفسير الفقهي التراثي لمفاهيم الدولة، كمفهوم شرعية السلطة ومفهوم الشورى وأهل الحل والعقد..الخ. في المقابل، يقدم العالم الأزهري علي عبد الرازق فتوى سياسية جريئة "مكلفة" في نقد نظرية الخلافة معتبراً أنّها بدعة ليست من الإسلام في شيء الهدف منها خدمة مصالح السلطة السياسية وإسباغ بعد ديني عليها يمنحها ثوب القداسة والعصمة. وعلى الرغم من حملة الغضب والتشويه التي تعرّض لها عبد الرازق وكتابه "الإسلام وأصول الحكم" وحكم الإسلاميين على مقالته الفكرية- السياسية بالإعدام، إلاّ أنّ هذا الموقف الحاد والمتشنج، لم يكن موضوعيا، مما غيّب رؤيته السياسية عقودا طويلة إلى أن عادت مؤخرا مع بعض التجارب والأصوات، التي دفعت بعدم وجود تناقض بين العلمانية السياسية وبين الإسلام. الخطاب الثالث "الإخواني" ويلاحظ بلقزيز أنّ رؤية حسن البنا السياسية مرتبكة بين القبول بالدستور وتحكيم الشريعة أو بين القبول بالانتخابات النيابية والهجوم على الأحزاب السياسية أو بين التعامل مع الدولة الوطنية ووضع الخلافة كهدف بعيد الآمد. ويضيف بلقزيز إلى هذا الخطاب حسن الهضيبي والقرضاوي وعددا من الكتاب الإسلاميين الذين قدموا خليطا من التصورات والمفاهيم التراثية والحديثة في تصورهم للدولة الإسلامية. الخطاب الرابع "الشمولي"، يمثله سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومحمد قطب ومعهم عبد السلام فرج وغيره من قيادات التيار الجهادي. ويرى بلقزيز أنّ هذا الخطاب يحمل شبهة "الثيوقراطية"؛ إذ يقدم "المسألة السياسية" بأسرها في سياق من المفاهيم الدينية المطلقة كمفهوم حاكمية الله، وهو مفهوم غامض يثير العديد من التساؤلات حول مصدر السلطات والديمقراطية..الخ. ربما أتفق مع عبد الإله بلقزيز بأن رؤية سيد قطب والمودودي ومحمد قطب واتجاه مرتبط بهم في الفكر الإسلامي قد تكون أقرب إلى "الشمولية" أو الدولة الإسلامية ذات الصبغة التعددية المقيدة، والحريات المحدودة. إلاّ أن هناك ثلاث ملاحظات رئيسة: الأولى تتمثل بأنّ سيد قطب لم يقدم مقالا مفصلا حول الدولة الإسلامية مشددا على قضيته الأولى والرئيسة "حاكمية الله"، محاججا عنها، كما أن خطاب المودودي السياسي مرّ بمراحل متعددة تختلف الأولى منها عن الأخيرة في الموقف من الديمقراطية والتعددية..الخ. والثانية أن الجمع بين رؤية الأخوين قطب والمودودي وبين رؤية الجماعات الجهادية حول الدولة غير دقيق، فصحيح أنّ الجهاديين تأثروا ابتداء بهؤلاء المفكرين إلاّ أن رؤية الجهاديين لمفهوم الدولة الإسلامية ذهبت مدى أبعد في التضييق والتقييد وصلت إلى تصورات تاريخية، بلا أي قبول بالآليات والمبادئ السياسية الحديثة، وهو ما يختلف بالتأكيد عن رؤية هؤلاء المفكرين، والتي فصّل فيها محمد قطب فيما بعد، وأجاب عن بعض الأسئلة المرتبطة بها (ككتابه حول تطبيق الشريعة) بما يختلف عن مقالة الجهاديين وتصوراتهم. والثالثة أنّ هناك تداخلاً بين خطاب قطب والمودودي الشمولي وبين الخطاب الإخواني، إذ يتبنى اتجاه داخل جماعة الإخوان المسلمين مزيجا من أفكار سيد قطب وأفكار البنا والمودودي وتقترب تصوراتهم للدولة الإسلامية وسماتها العامة من تصورات سيد قطب العامة. على ما سبق؛ أرى أن مقالة الجهاديين في الدولة تتميز بنسق عام مختلف يمكن أن تدرس كخطاب إسلامي مستقل، يستند إلى ما أنتجه الكتاب المرتبطون بهذا التيار كعبد السلام فرج والظواهري وابو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وعبد المنعم حليمة أبو بصير وغيرهم من الكتاب الجهاديين الذين نشطوا في السنوات الأخيرة. على الرغم من أهمية كتاب بلقزيز إلاّ أنه لم يسلط الضوء على مساهمة التيار الإصلاحي المتأخر في الخطاب الإسلامي حول الدولة، كطارق البشري (مقاربة الجماعة الوطنية) المسيري (مقاربة العلمانية الجزئية والكلية) أحمد كمال أبو المجد ( الإسلام الليبرالي) الغنوشي وهويدي (المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان..). في المقابل؛ استأنف عدد من المثقفين والكتاب الإسلاميين الجدد مرافعة علي عبد الرازق في نقد الخلافة والتأسيس لمفهوم العلمانية المؤمنة. وشهد مؤتمر الوسطية الذي عقد في عمان (ابريل 2006) مساجلة مختصرة بين د. أحمد الكبسي - الذي رأى أن الإسلام لا يتناقض مع العلمانية السياسية- ود. عصام البشير - الذي رفض ذلك وقال ان الإسلام لا يتناقض مع المدنية وليس العلمانية-. وفي الحقيقة هذا السجال ليس بعيدا عن ساحة الإعلام العربي التي تشهد حوارات كبيرة حول مفهوم الدولة الإسلامية. لكن الملاحظة الرئيسة هي أن هناك نخبة من المثقفين الإسلاميين تعيد النظر بجدية في مفهوم الدولة الإسلامية والموقف من العلمانية، يلخص ذلك التساؤل الذي أطلقه الباحث إبراهيم غرايبة: "دولة إسلامية أم دولة المسلمين؟" (الغد 25/3/2005). ومن الملفت للانتباه بروز جيل من المثقفين والمفكرين الإسلاميين الليبراليين الشباب في الساحة العربية والإسلامية (سنة وشيعة)، يقتربون في رؤيتهم السياسية من الخطاب الإصلاحي الأول ومن تأكيده على رفض الاستبداد والمؤسسية وقيمة الحرية وبناء أسس ديمقراطية لشرعية السلطة والتوسع في الاجتهاد الفكري والفقهي في تحديد سمة الدولة الإسلامية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جماعة الملتقى في سورية (رضوان زيادة، عبد الرحمن الحاج، عبد الرحمن الحلي، سامر الرشوان، معتز الخطيب)، وإلى مجلة الكلمة- ذات الصبغة الشيعية (زكي الميلاد ومحمد محفوظ) ومجلة قضايا إسلامية معاصرة، وإلى حزب العدالة والتنمية المغربي (سعد الدين عثماني، محمد يتيم، أحمد الريسوني) وغيرهم. ويمكن أن نعتبر - أيضا- المبادرات الإصلاحية الإخوانية الأخيرة (تمثل مرحلة متقدمة في هذا الخطاب حول التعددية والمعارضة والديمقراطية). في المحصلة؛ وإن كنا لا نقلل من وجود مساهمات ورؤى وتصورات متعددة وثرية. لكن مقالات الإسلاميين حول الدولة لا تزال متناثرة لم تنضج بعد لتشكل نسقا من المفاهيم والأدوات المتجانسة المتكاملة، فهي أقرب إلى "اللغو الأيدلوجي" أو الأدب الإسلامي –على حد تعبير بلقزيز-.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|