الوضع السياسي الفلسطيني الراهن.. ملامح جديدة
12/5/2006 حيدر عوض الله- الطريق
أنشأ فوز حركة "حماس" بالسلطة التشريعية متغيراً جديداً على البناء السياسي الفلسطيني الذي ظل على مدار السنوات المنصرمة تحت هيمنة حركة "فتح" التي استطاعت أن تبسط هيمنتها على مفاصل البناء السياسي كله. وبهذا الفوز يدخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة تتسم بما يسمى تقاسم السلطة، والذي يمكن أن يؤدي في حال التعارض المرشح حدوثه بين "فتح" والمؤسسات المسيطرة عليها (الرئاسة ومؤسسات م.ت.ف) وبين حركة "حماس" ومؤسساتها إلى شلل سياسي وازدواجية عقيمة يمكن أن يؤديا في أحسن الأحوال إلى حسم هذه الازدواجية بانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة. إذ بالرغم من فوز حركة "حماس" بأغلبية مقاعد التشريعي، فإنها لم تحصل على أغلبية الثلثين التي تمكنها من تمرير برنامجها وفلسفتها الاجتماعية، سواء على مستوى التشريعات أو السلطة التنفيذية، وإلى جانب ذلك، تعمق طبيعة البنيان السياسي للسلطة هذه الازدواجية. فنظام الحكم في فلسطين نظام رئاسي وبرلماني، ويملك الرئيس صلاحيات واسعة ومؤثرة. وفي ظل التعارض الواضح بين برنامج الرئيس السياسي الذي تلاه أمام المجلس التشريعي الجديد وبرنامج حماس المعلن حتى الآن، فالأمور تسير نحو الاستعصاء. وصول حركة "حماس" بهذه القوة إلى المجلس التشريعي يحتاج إلى قراءة معمقة في المقدمات التي أفضت إلى ذلك، وهي مقدمات متشعبة ومتنوعة، تبدأ من انسداد اللحظة السياسية أمام عملية سلام ذات مضمون ويمكن أن تفضي إلى اتفاق مشترك بسبب السياسة الإسرائيلية التي انقلبت على جميع الاتفاقات والتفاهمات، وكالت للسلطة ضربات مدمرة بهدف تصفية أي شريك فلسطيني ذي نفوذ ومكانة دولية يمكن أن يعرقل الأهداف الإسرائيلية ورؤيتها للحل المبني على تصفية أي إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمتواصلة جغرافياً على جميع الأراضي التي احتلت عام 67 وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، مروراً بالوضع الذي نشأ عبر السنوات الخمس الماضية، والذي شكل مأزقاً وطنياً عاماً تراجعت فيه إلى حدودٍ قصوى مكانة السلطة ودورها، وبرنامج الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، وبدت ملامح الانهيار الوطني تطرق بشدة على المجتمع الفلسطيني نتيجة عسكرة الانتفاضة، وتوالد الأذرع العسكرية التي لم تحتكم وتنضبط إلى أية مرجعية سياسية، خاصة الأذرع العسكرية التي تحسب نفسها على حركة "فتح"، حزب السلطة، ما أنتج واقعاً تمثل في انعزال السلطة الرسمية عن حزبها، وتشظي هذا الحزب ذاته وتمرد قاعدته التنظيمية على قيادتها، وعدم قدرة الحركة على معالجة أزمتها الداخلية علاجاً يمكّنها من إدارة عملية الإصلاح دون تفككها، ودون فقدان السلطة أو جزء منها كما حدث أخيراً. إن حركة "فتح" اكتفت بالقبض على السلطة من خلال الرموز السلطوية الفوقية وتعبئة الجهاز الوظيفي المدني والعسكري، حد التخمة، بكادرها وأعضائها، ولم تولِ اهتماماً لفرض سيطرتها على قاعدتها الاجتماعية، سيطرة سياسية وفكرية، بل على العكس، فقد تركت هذه القاعدة نهباً لحركة "حماس" وخطابها الشعبوي الديني الذي وجد في أحزمة الفقر المتعاظمة دفيئة مناسبة لنموها حضوراً تنظيمياً وسياسياً. وبسبب التمويل الكبير الذي تمتعت به حركة "حماس"، حبكت حضورها التنظيمي والسياسي بحضور إغاثي، وحوّلت أعداداً هائلة مسها الفقر، وسوء توزيع الموارد الوطنية، إلى متلقٍّ دائم لمساعداتها الإغاثة، وفضلت العمل بعكس المثل الصيني في أنها استمرت بتقديم السمك للناس بصورة تجعل الناس معتمدة دورياً على هذه المساعدات. واستطاعت بنجاح أن تخترق من خلال مؤسساتها المتنوعة صفوف الشباب والمرأة بشكل خاص، ويمكننا الإطناب في الحديث عن المقدمات التي أدت إلى نصرها، ويبقى أن نشير إلى الميل الغريزي للجمهور، وفي حالات التفكك وملامح الانهيار التي بدت واضحة على المجتمع الفلسطيني تحت سلطة حركة "فتح"، فيميل الجمهور دائماً إلى تفويض القوة الكبيرة التالية أملاً بضبط الوضع، ومنع الأوضاع الداخلية من الانهيار. يمكن القول إن انتصار حركة "حماس" لم يكن فشلاً للبرنامج السياسي الفلسطيني، بل كان فشلاً لفلسفة الحكم وإدارته تحت قيادة حركة "فتح". كما أظهر فوز "حماس"، بخلفيتها السياسية والاجتماعية، ضعف المجتمع المدني ومؤسساته بالرغم من الأموال الهائلة التي صبت له، وهذا يحتاج بدوره إلى مراجعة شاملة من حيث قدرة هذه المؤسسات ببرامجها وقياداتها وأجسامها التنظيمية على تقوية المجتمع المدني كخط دفاع أساسي(؟!) عن القيم والتقاليد التي سفح أموالاً ضخمة وهو يبشر بها. فإذا كانت الحركة الوطنية وقواها السياسية قد تلقت ضربة قوية في هذه الانتخابات، فان مؤسسات المجتمع المدني قد تلقت الضربة نفسها. فلم تفلح هذه المؤسسات على انتشارها وتضخم أعدادها، وحجم تمويلها، من ترسيخ مفاهيمها وقيمها داخل المجتمع الفلسطيني، في حين استغلت "حماس" بنجاعة كبيرة مؤسساتها الإغاثية، واستطاعت أن توظف كل مساعدة مهما علا أو قل شأنها توظيفاً سياسياً مباشراً. والسؤال هنا ذو شقين؛ الأول يرتبط بفلسفة التمويل الخارجية والتي قيل عنها أنها تشترط الابتعاد عن السياسة وأحزابها، والثاني نزع البعد والمضمون السياسيين عن العمل الاجتماعي، أي أن معظم الخدمات والأموال المقدمة إلى هذا القطاع ومنه لم تستطع بناء حركة اجتماعية سياسية!! لاحظنا، إثر فوز حركة "حماس"، النشاط السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي الهادف إلى معاقبة الشعب الفلسطيني على خياره الديمقراطي، ولم يكن هذا النشاط مفاجئاً، فمن مصلحة إسرائيل تعميق العزلة السياسية على القضية الوطنية، وكسب المزيد من الوقت لترسيم حدودها النهائية على جثة الأرض الفلسطينية، تحت ذات ذريعة "لا يوجد شريك " المتواصلة منذ الانتفاضة الثانية. كما يعكس الخطاب الرسمي الإسرائيلي إصراراً كبيراً على النظر للسلطة الفلسطينية من بوابة "حماس"، معتبرين الرئيس وبرنامجه السياسي غير ذي صلة، أي أن حكومة إسرائيل لاترغب برؤية شريك ذي مصداقية دولية ، يعرقل توجهاتها الاستراتيجية في حسم مفاوضات الحل النهائي من طرف واحد. سيواصل الاسرائيليون بعد انتخاباتهم البرلمانية وفوز حزب "كاديما" إكمال رؤية شارون لحل أحادي الجانب، يرسم بصورة نهائية جدار الفصل العنصري كحدود لدولة إسرائيل مع ضم مناطق الغور وحدود البحر الميت، وإكمال عزل مدينة القدس وتهويدها وتقسيم الضفة الغربية إلى كانتونات ومعازل مرتبطة مواصلاتياً، لاجغرافياً، ببعضها البعض. ولإنجاز هذه الاستراتيجية تحتاج إسرائيل إلى غطاء وموافقة أمريكيين يستندان إلى فلسفة " لا يوجد شريك". وهذه المرة ستعمد التبريرات إلى وجود حركة "حماس" بلاءاتها المعلنة حتى الآن: لا اعتراف، لا تفاوض. ومن السيناريوهات الخطرة أن تتكئ حماس على لاءاتها ، "ولا تلوث" نفسها باستحقاق الشرعية الدولية، فيما ماكينة الاحتلال ماضية في ترسيم حدودها النهائية. هناك مخاطر جدية، لكنها مؤجلة، في تحول قطاع غزة إلى دويلة مستقلة تشرف عليها مصر، وإلى تحويل معازل الضفة إلى إدارات ذاتية تشرف عليها الأردن بصيغة أو بأخرى. أمام هذه الاستراتيجية المعلن عنها، كيف يمكن للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية قطع الطريق على هذه المخططات؟ نعرف أن مهمة إدارة العملية السياسية والتفاوضية أنيطت بـ "م.ت.ف" كمرجعية سياسية عليا للسلطة الفلسطينية، لكن مؤسسة الرئاسة مركبة الصلاحيات رسخت حقيقة إدارة المنظمة والسلطة كجسم واحد، وكانت تديرهما، وتقدم الأولى على الثانية استناداً إلى حاجات التوظيف السياسي التكتيكي والمرحلي. فلم تكن حاجة، من وجهة النظر هذه، للتفريق بين السلطة والمنظمة بحكم سيطرة مهيمن واحد ورئيس واحد على المؤسستين كليهما. والآن ، وبعد سيطرة حركة حماس على مفصل رئيسي من مفاصل السلطة، تصبح مهمة تفعيل "م.ت.ف" ودوائرها تتمتع بأهمية قصوى، لأن الأمر يتعدى استبدال قوة بأخرى، ويصل إلى ما يمكن وصفه بانقلاب برنامجي ذي طبيعة سياسية . ولتفعيل المنظمة ودوائرها ومكانتها كمرجعية سياسية هدفان مركزيان: الأول داخلي يهدف إلى منع التراجع عن برنامج الإجماع الوطني الذي حدد حدود الدولة الفلسطينية، وعلاقته بالشرعية الدولية والذي يمثل التراجع عنه وصفة مدمرة للقضية الفلسطينية ومكانتها الدولية وإنجازاتها، والثاني خارجي يتعلق بالتمثيل السياسي. فإذا كانت السلطة خلال السنوات الماضية قد تحولت إلى مرجعية سياسية ذات وزن وحضور كاسحين على صعيد التمثيل الدولي، في الوقت ذاته الذي تراجعت فيه منظمة التحرير بصفتها التمثيلية، يمكن اليوم بمزيد من المثابرة إعادتها كلاعب سياسي على المستوى الدولي، خاصة أن برنامج رئيس السلطة والمنظمة واحد، ناهيك عن أن الشخص ذاته يحتفظ بالمهمتين. ويمكن للمجتمع الدولي أن يتعاطى مع هذا الوضع بسبب حاجته إلى برنامج يشكل امتداداً للشرعية الدولية وليس انقلاباً عليها. وفي ظل هذه المعادلة، قد تجد حركة "حماس"، المنوطة بها إدارة احتياجات الشعب الفلسطيني والإجابة بصورة واقعية عن هذه الاحتياجات بعيداً عن الشعارات المنبرية، في هذا الوضع مخرجاً يعفيها من السقوط عن شجرة برنامجها ولاءاتها. ثمة مخاطر حقيقية في أن تستكمل إسرائيل في المرحلة القادمة سياسة ما يسمى فك الارتباط من جانب واحد ، وحسم قضايا الحل النهائي وترسيم حدودها النهائية من خلال ضم المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية وضم منطقة الغور لدواعي مايسمى "الأمن الاستراتيجي" لدولة إسرائيل، وضم القدس الشرقية، بعد إخراج القرى المحيطة بالقدس. وتتكئ إسرائيل في خيارها هذا على التطورات السياسية الجديدة، وفوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية، لتعميق فلسفة "لا يوجد شريك" لحسم مصير الأراضي الفلسطينية من خلال إجراءات أحادية الجانب. وبينما ينشغل العالم بكيفية التعاطي مع الحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة "حماس"، وبالأطواق التي وضعها حولها كمقدمة للتعامل معها ، فإن الإسرائيليين سيستثمرون هذا الوضع الناشئ لإكمال برنامج شارون المعلن والمعروف. وفي ظل هذه التطورات ينبغي رسم سياسة فلسطينية مضادة، تنطلق من الشرعية الدولية، وتقوم على أساس الإعلان عن حدود الدولة الفلسطينية على جميع الأراضي التي احتلت العام 67 وفقاً للقرارين 242-338. فكل خطوة أحادية من قبل إسرائيل يجب أن تواجه بخطوة سياسية من القيادة السياسية الفلسطينية. إن مثل هذا الإعلان، في ظل النوايا الإسرائيلية سيشكل خطوة اعتراضية، وسيعيد التأكيد من جديد على الهوية السياسية للأراضي الفلسطينية المحتلة العام 67 ، وبطلان وعدم قانونية أيٍّ من الإجراءات والخطوات الإسرائيلية الرامية إلى نهب الأرض الفلسطينية وتقرير مصيرها. هذا الإعلان يحتاج بصورة فورية إلى جملة من التحركات السياسية والدبلوماسية على المستويات العربية والإقليمية والدولية، لإحباط المخطط الإسرائيلي وإعادة التأكيد على حدود الدولة الفلسطينية.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|