لم يكن كافيا قتل ورود ربيع دمشق وهي لاتزال براعم صغيرة، إذ بدا أن تربة دمشق ظلت رغم عقود القمع وفيّة للمدينة التي حملت اسمها واحدة من أجمل الورود وأثمنها عطرا "الوردة الدمشقية". لذلك، كان لا بد من تجريف التربة ذاتها باستئصال البقية الباقية من مفهوم المواطنة، بأن وصلت الاعتقالات أخيرا إلى المطالبين بالإصلاح الوطني الخالص، وليس من تهمة تدبر لهم إلا المطالبة بعلاقة طبيعية مع لبنان قائمة على الاحترام والأخوة، لا سيما وأن السوريين واللبنانيين هم "شعب واحد في وطنين"، كما كان يردد الإعلام السوري الرسمي لسنوات وسنوات. لكن، هل تبدو الصورة فعلا بهذا السوء فعلا؟
بالنظر إلى التاريخ المثقل بالشواهد التي لا تخفى على أعمى البصر كما أعمى البصيرة، تبدو حملة الاعتقالات الجديدة لمثقفين سوريين، ضمن حملة لم تتوقف سابقا ولا يعرف متى ستتوقف مستقبلا، متسقة تمام الاتساق مع عمر مضى، وهي لذلك بحق أحد أهم مؤشرات "الإصلاح من الداخل!" الذي نادت به سورية مدعومة بالقوميين العرب، من علمانيين وإسلاميين. وحتى هؤلاء القوميون إنما يؤكدون بدورهم تواصلهم مع ماض طويل لعلاقة راسخة بين القومية العربية والأنظمة الديكتاتورية منذ ما يسمى تجاوزا "فجر" الاستقلال وحتى اليوم، الأمر الذي يشكل العذر الكافي بالنسبة لهم في مواجهة كل مواطن عربي يتساءل عن جهل وقلة معرفة عن عدم تنادي القوميين العرب إلى عقد مؤتمر للمحامين العرب، أو آخر للأحزاب العربية للدفاع عن المعتقلين في سورية؛ كما لا يجب توقع صدور بيان واحد قد تسيء الإمبريالية فهمه وتجيره لمصلحتها! وتظل، فوق ذلك، القاعدة الذهبية الأتاتوركية (نسبة لأتاتورك) الصحيحة دائما هنا: "أنا بخير، القومية العربية بخير".
لكن حتى لو سلمنا أن التضحية بالشعب السوري ومثقفيه هو ثمن بخس جدير بأن يدفعه القوميون العرب، طبعا دون معرفة المقابل الذين يحصلون عليه أو يتقاضونه، فهل أن الخسائر فعلا لا تطال سوى هذا الشعب؟
بعد ذريعة مواجهة العدو الصهيوني التي استغلت لعقود، غدت الذريعة الثورية الأحدث لقمع المواطن العربي وتجريده من إنسانيته هو أن الديمقراطية باتت مطلوبة أميركيا، ولتكون فقط حصان طروادة الذي به تخترق العرب والعروبة؛ لكن الولايات المتحدة تعلن اليوم فعلا لا قولا تخليها عن أي دعوة إلى الديمقراطية في العالم العربي، وأنه بقليل من التخويف من البديل، وبضعة براميل نفط، وحفنة من الدولارات تدفع كتعويضات لمواطنين أميركيين، يمكن تبييض كل سجل عربي مليء بالقمع، وبدء مرحلة جديدة تماما من الصمت عن الديكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان، طبعا مع تبعية كاملة للغرب والولايات المتحدة تحديدا، فهل بقي من حجة للقوميين العرب للصمت، وعدم المباشرة بالإصلاح من الداخل فعلا؟
ربما لا يعي القوميون العرب أنهم برفعهم شعار الإصلاح من الداخل إنما ربطوا مصيرهم بتحقق الديمقراطية في العالم العربي، واليوم وفي كل يوم تتأخر فيه هذه الديمقراطية ينكشف زيف الشعار، إنما على حساب القومية العربية ذاتها، ومن يريد مثالا واقعيا حيا ومؤلما في آن فليس عليه سوى النظر إلى العراق العربي.
فكثيرون لا يريدون أن يقروا بالإجابة الواضحة وضوح الشمس عن السؤال الذي قيل إنه ملغز: كيف سقطت بغداد بهذه السهولة في العام 2003؟ والإجابة ببساطة هي أنه ليس هناك من إنسان مستعد للدفاع عن زنزانته، حتى لو كان الفرار منها إلى أرض شريعة الغاب. أما السؤال الأهم فهو: لماذا يكن أكثرية العراقيين كل هذا الكره والحقد للعرب والعروبة؟ هنا يجب أن ننظر إلى أفعال القوميين العرب، ومهرجانات التصفيق والهتاف التي يعقدونها، لتكون الإجابة بسؤال منطقي بدهي آخر: وهل يعقل أن ترتمي الضحية في حضن سجانها وجلادها، وإن كان يمارس هذا الدور بالتواطؤ، تحت شعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة؟!
إذا أردنا أن ننقذ القومية العربية بكل ما تعنيه من مضامين تقوم على صون الكرامة والحقوق الإنسانية، فلا يكون ذلك إلا بالتخلص من مدعيها بداية الذين هم عرابو الديكتاتورية الحقيقيون، وصولا إلى طوق النجاة الحقيقي وهو الديمقراطية، التي لا تكون حقيقية وراسخة إلا إن كانت من الداخل الصادق.
manar.rashwani@alghad.jo