غداة احتلال أفغانستان والإطاحة بنظام طالبان، وفيما كانت الإدارة الأميركية تحتفل بتحقق أول دلائل نبوة الرئيس جورج بوش ومشايعيه من المحافظين الجدد، حاملا رسالة الديمقراطية إلى العالم الإسلامي تحديدا، كان استاذ الاقتصاد في جامعة برنستون، والكاتب في صحيفة نيويورك تايمز، بول كروجمان، يؤكد أن النصر الحقيقي للإدارة الأميركية في أفغانستان كان في نقل أخبار ما يجري هناك من الصفحات الأولى إلى الصفحات الداخلية للصحف. واليوم يتضح أن النصر الأميركي الإعلامي القائم على التضليل والتعمية لم يعد ممكنا في أفغانستان التي تستعيد فيها طالبان حضورها ونفوذها بشكل متسارع.
أما في العراق، وإذ ظهر منذ البدايات الأولى عدم إمكانية تحقيق نصر أو تضليل كهذا، إلا أن الفشل الأميركي كشف عما هو أشد فظاعة، وبما يمكن تسميته بـ"التطهير الإعلامي" كما يتجسد جليا في رد الفعل الأميركي على مجزرة حديثة غربي العراق، التي انتقم فيها جنود من البحرية الأميركية (مارينز) لمقتل أحد رفاقهم بقتل أربعة وعشرين مواطنا مدنيا عراقيا، بينهم أطفال ونساء وشيوخ.
فعقب افتضاح المجزرة، كانت الرسالة الأميركية الإعلامية إلى الشعوب العربية والإسلامية، ضمن استراتيجية كسب العقول والقلوب، هي الإعلان عن فتح تحقيق في المجزرة، ومشاهدة قائد قوات المارينز متحدثا في بغداد عن الشرف الرفيع لهذه القوات، والأهم إعلان الجيش الأميركي عن نية تنظيم تدريب إضافي للجنود الأميركيين في العراق "تتعلق بالسلوك والتصرف الأخلاقي في ساحات المعركة".
من الممكن في حالة حرب العراق سيئة التخطيط والإدارة، كنتيجة منطقية لغموض أهدافها ودوافعها، تصديق خرافة أن الجنود الأميركيين لا يعرفون مبادئ قانون الحرب، أي اتفاقيات جنيف الأربع الموقعة في العام 1949، والتي نصت الاتفاقية الرابعة منها، المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، في مادتها 147، على أنه تتضمن "المخالفات الجسيمة... القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية..."، ليكون من الطبيعي أن يشهد هذا الجيش –غير المثقف وغير المدرب أخلاقيا- حاليا، وبإقرار قيادته، ثلاثة أو أربعة تحقيقات بشأن ممارسات جنوده في العراق، لا يُعرف إن كان من ضمنها مذبحتا حديثة والإسحاقي. لكن هل يبدو معقولا أن لا يعرف قادة أعظم جيش في العالم، واكثرها مهنية كما يفترض، أن "المخالفات الجسيمة" التي نصت عليها اتفاقيات جنيف الأربع هي العمود الفقري لما يسمى "جرائم الحرب" التي تضم الجرائم التي يحاكم عليها صدام حسين وقبله سلوبودان ميلوسوفيتش، وأن هذه المخالفات ليست وفق أي ظرف من الظروف مجرد "سوء سلوك" كما يحب القادة الأميركيون، من عسكريين وسياسيين، توصيف فظائع جنودهم؟!
باختصار، وعقب التطهير الجسدي الثأري ضد المدنيين العراقيين العزّل، بات من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة أن تمارس نوعا من التطهير الإعلامي الذي إن لم ينجح في إدانة الضحايا أنفسهم، كما حدث في حالة مذبحة الإسحاقي التي تم تبرئة المتهمين فيها (على الأغلب لعدم كفاية الأشرطة والصور واعترافات الجنود والضباط الأميركيين المتسربة إلى وسائل الإعلام حتى الآن!)، فإن مثل هذا التطهير يكون عبر تسخيف الفظائع المرتكبة وتبسيطها، باعتبارها "سوء سلوك" أو "سلوكا خاطئا" من "رجل طيب" أصلا، كما وصف أحد جنود المارينز قائد المجموعة التي نفذت مذبحة حديثة، وعلاج ذلك بقليل من التدريب والتثقيف. ولتكون النتيجة أن ما حدث لا يعدو أن يكون استثناء نادرا على حقيقة أن "99.9% من قوات التحالف الموجودة حاليا في العراق، وعددها 150 ألف جندي، يؤدون عملهم بشكل رائع كل يوم"، بحسب الجنرال بيتر تشاريلي الرجل الثاني في القوات الأميركية بالعراق!
سياسة التطهير الإعلامي الأميركية في الواقع ليست إهانة للضحايا الذين صح فيهم قول "ليس يضير الشاة سلخها بعد ذبحها"، إنما الإهانة الحقيقية هي تلك التي تلحق بالأحياء من عرب ومسلمين في العراق وخارجه، عليهم توقع نفس المصير، لكن مع قناعة بأن مآسي العراق وأفغانستان وغوانتنامو والسجون السرية لا تعبر عن عقيدة أميركية راسخة لدى بوش ورامسفيلد وبقية أركان الإدارة الأميركية.
manar.rashwani@alghad.jo