إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



فكر أزمة أم أزمة فكر!

السبت 17/6/2006
محمد ابو رمان- "الغد" الاردنية

يطرح تدهور المشهد السياسي العربي الراهن جملة من الأسئلة الأساسية. فمشروع الإصلاح السياسي تراجع إلى الوراء كثيرا، في مقابل حالة الفوضى والانتكاسات الفكرية نحو الطائفية والعرقية والانتماءات الأولية التي تهدد بالاتجاه نحو خارطة جيوسياسية أكثر تمزقاً وتفككا. أما الملفات الساخنة فتسير نحو الأسوأ؛ في العراق حرب أهلية غير معلنة، وفي فلسطين صراع على سلطة وهمية مقابل مشروع إسرائيلي يلغي الحقوق الفلسطينية من أساسها، أما ثورة الأرز فوقفت عند تخوم شيوخ العشائر الطائفية والعرقية والمذهبية. على الجانب الآخر يعاني المشروع الاقتصادي في كثير من الدول العربية من الإفلاس والعجز في ظل معدلات فقر وبطالة وأمية وفشل في التنمية تضاعف من مستوى الأزمات التي باتت تحصار المواطن العربي في كل مناحي ومستويات حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الجواب الفكري على الأزمة السياسية يتمثل في المناظرات الفكرية العربية التي تدور اليوم حول عدة قضايا حيوية: المشهد العراقي، الأوضاع الفلسطينية، مشروع الإصلاح السياسي، قضية التنمية الاقتصادية. في حين يتوزع المثقفون العرب إلى عدة اتجاهات فإن هنالك ثلاثة اتجاهات رئيسة؛ الأول اتجاه المقاومة والثاني الليبرالي الواقعي والثالث الإصلاحي، ولكل منها رؤيته للأزمة وسبل الخروج منها.
الاتجاه الرئيس هو اتجاه المقاومة وينطلق من مركزية الموقف من المشروع الأميركي- الصهيوني، ويرى أولوية مقاومته على أي أولوية أخرى، على قاعدة أن هذا المشروع تاريخاً وواقعاً هو أساس العلة والداء، وأنه لا إصلاح ولا صلاح ولا تنمية وتطورا واستقلالا إلاّ بهزيمة هذا المشروع في المنطقة العربية. وعليه فإنّ الأولوية ليست وطنية- داخلية مرتبطة بمعادلات الإصلاح السياسي وانتزاع الحقوق والحريات والتطور الديمقراطي، فهذه القضايا تمثل، وفقا لهذا الاتجاه، شروطا ثانوية في المعركة مع الاحتلال والهيمنة. حتى معركة هذا التيار مع النظام الرسمي العربي، في شقها الحيوي، ليست على الإصلاح الديمقراطي إنما على الموقف من المشروع الأميركي.
يكتسب هذا الاتجاه قوته من السياسة الخارجية الأميركية ذاتها، ومن جرائم الاحتلال الصهيوني، ومن هزال النظام الرسمي العربي، ما يقوي ويجذر من نزعة معاداة الولايات المتحدة، ويعطي شعبية كبيرة لهذا التيار وخطابه ورموزه داخل الشارع العربي، إذ يضم هذا التيار مثقفين إسلاميين ويساريين وقوميين.
مشكلة هذا الاتجاه ليست في الموقف من مشروع الاحتلال أو الهيمنة الأميركي، أو خطورته أو ضرورة مواجهته، إنما في تقدير أنّ مواحهة هذا المشروع تمثل "أولوية" في مقابل الإصلاح السياسي والثقافي، بل يرى أنّه لا يوجد مشكلة ثقافية داخل العالم العربي، وأنّ المجتمعات العربية في حالة صحية ممتازة تتمثل برفض الاحتلال والهيمنة والإصرار على المقاومة كما هو الحال في العراق وفلسطين.
وإذا كان هذا الاتجاه يرى أن المقاومة العراقية بمثابة الشاهد على قوة الشعوب العربية وقدرتها على دحر المشروع الأميركي، وهذا صحيح، إلاّ أنه يقرأ وجهاً واحداً للأزمة العراقية دون الوجوه الأخرى الخطرة، التي تناقض رؤيته، وأبرزها؛ كيف أن نظم الاستبداد لا يمكن أن تصمد في مواجهة المشروع الأميركي، وكيف أن الجيوش والشعارات والجوقات السياسية التي تهلل للمستبد تسقط مرة واحدة مع بداية المعركة، وربما بداياتها، فمقاومة المشروع الأميركي تكمن، ابتداء، ببناء شروط داخلية ثقافية- سياسية تمنع توافر شروط "القابلية للاستعمار" في الداخل.

فلو كان العراق ديمقراطياً ومتصالحاً مع نفسه والمواطن غير مقموع ومرعوب، يشعر بحريته، والجيش مسخر لخدمة الوطن والمجتمع في عقيدته العسكرية لا لخدمة عصابة لما انهار في ساعات، ولما وجد الاحتلال مواضع قدم في العراق، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل يتعلم المثقفون العرب هذا الدرس أم يكررون التجربة مع سورية؟!
الأخطر هو أنّ المقاومة العراقية اليوم تمثل خياراً طائفياً، للسنة العراقيين، بينما يجد الشيعة في الاحتلال فرصة "ذهبية" لتغيير الأوضاع السياسية، بل إن مجالاً كبيراً من الحرب اليوم هو طائفي بين الشيعة الذين يشكلون قوات الجيش والشرطة الجديدة والأجهزة الأمنية المختلفة، بما في ذلك "فرق الموت" سيئة الصيت والسمعة، وبين فصائل المقاومة العراقية، ذات الطابع السني، مختلطة بجماعات القاعدة. والمحزن هو الخشية من أن انسحاب قوات الاحتلال ستؤدي إلى حرب أهلية ومن ثم "كارثة إنسانية"، يعترض هذا الاتجاه بأنّ الاحتلال لعب دوراً في تنمية النزعات والأزمات الداخلية. وهذا صحيح، لكن السؤال لماذا نجح بالقيام بذلك؟ إذا لم تكن لدينا الأرضية المناسبة.
الاتجاه الثاني هو الليبرالي الواقعي، ولا يمثل، بالتأكيد، مختلف الاتجاهات الليبرالية العربية، بل هو نخبة من المثقفين والكتاب العرب، والعراقيين، الذين يجعلون من الواقع الحالي حكماً وحيدا، ويتجاهلون إمكانية المقاومة العسكرية، ويتخذون موقفا نقديا حادا من المجتمعات العربية، فهم يطالبون بالتخلي عن المقاومة في العراق، وفي فلسطين. وكان مثقفو هذا الاتجاه، قبل احتلال العراق، يرون في المشروع الأميركي مفتاحاً ذهبياً للمنطقة معتبرين أنه سيخلصها من النظم المستبدة الجاثمة على قلوبها وسيطلق العنان للطموحات السياسية الواقعية من خلال تدشين نماذج ديمقراطية عربية. إلاّ أن الفشل الكبير الذي مني به الأميركيون في العراق، والأخطاء الكبيرة، والسجل المخزي في حقوق الإنسان، وتدهور سمعة أميركا الأخلاقية عالمياً، دفع دعوات هذا الاتجاه إلى الوراء، وأضعف من حججهم، فضلاً عن انصراف الشارع والمجتمعات العربية عنهم، ناهيك عن تراجع الدعوة الأميركية لإصلاح العالم العربي لصالح الاتجاه التقليدي (أولوية المصالح) في
السياسة الأميركية.
الاتجاه الثالث هو الإصلاحي- النهضوي، الذي ينطلق من مركزية المشروع الوطني والإصلاح السياسي وأولويته، وعلى أهمية بناء الشروط الداخلية لممانعة الاحتلال والهيمنة، وعلى عدم التضحية بقضية الإصلاح على مذبح مواجهة المشروع الأميركي. وفي رؤية هذا التيار أنّ الاحتلال والهيمنة نتيجة للضعف والفشل وليست سبباً له. لا ينكر هذا الاتجاه أهمية المقاومة المسلحة للاحتلال ولا خطورة المشروع الأميركي لكنه يضعهما في سياق معين ضمن مشروع التغيير دون أن يجعل منهما عنوان المشروع.
وإذا كانت معركة هذا الاتجاه هي الاستبداد والفساد والتنمية فإنه لا يقدم لنا الطريق الواضح الذي نسير فيه لتحقيق هذه الأهداف ولكسب هذه المعركة، كما أنه عاجز إلى الآن عن تحريك الجماهير والمجتمعات العربية للمطالبة بالإصلاح السياسي وحقوقها المهدورة، والوصول إلى التنمية الاقتصادية المطلوبة، فما زال هذا التيار متسمرا عند القواعد النظرية العامة دون الاستراتيجية العملية، ولعل السؤال الذي يواجه هذا التيار، ويلخص أزمة حقيقية في رؤيته، هو: إذا كنتم ترون أن الاستبداد أساس البلاء، لكنكم ترفضون الاحتلال والقبول بالضغوط الأجنبية، وفي الوقت نفسه عاجزون عن تحريك الشارع من أجل الإصلاح، وتعانون من النخبوية ومن ضعف الداخل على التغيير، فكيف سيتحقق الإصلاح؟!
المناظرة الفكرية العربية والجدل الدائر بين هذه الاتجاهات يمثل استجابة لمشكلات الواقع وأزماته، إلاّ أنّها لا تزال عاجزة عن بناء منظورات متكاملة للمشكلات البنيوية. ففي الوقت الذي يفترض أن يقدم فيه الفكر العربي إجابات عن الأسئلة الحيوية الخطيرة التي تمر بها الشعوب العربية، ويطرح أفاقا جديدة تمثل طوق نجاة مما وصلنا إليه، نجد أنّ الفكر متأخر عن الواقع السياسي ذاته، على الرغم مما في هذا الواقع من ويلات!
سؤال "ما العمل؟" يطرح نفسه اليوم على كل النخب والقوى والمثقفين في العالم العربي، في ظل التدهور الخطير الذي آلت إليه حالة النظام الإقليمي العربي والأوضاع الداخلية في أغلب الدول العربية.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر