البلبلة ربح صاف للاحتلال الاسرائيلي
الاثنين 19/6/2006 برهوم جرايسي- "الغد"- الاردنية
أكثر ما تسعى إليه اسرائيل، في هذه الفترة بالذات، كما كان الحال طوال عشرات السنوات، هو كسب أكثر ما يمكن من وقت في المواجهة مع الشعب الفلسطيني. ففي مناورة المماطلة لا تقف اسرائيل متكوفة الأيدي، بل تسارع، وتتسابق مع عقارب الزمن، في فرض وقائع على الارض من استيطان وجدار وسلب اراض، مستغلة سلسلة من الظروف، وأهمها الوضع غير المتوازن على الساحة الدولية، والقوتين العسكرية والاقتصادية المتنامية في اسرائيل ذاتها، ولكن في هذه المرحلة بالذات، تستغل اسرائيل الوضع القائم في الساحة الفلسطينية. لقد بات المشهد القائم على الساحة الفلسطينية مقلقا للغاية، ونحن امام واقعين متشابكين، ولكل واحد منهما خصوصيته، فأولا، نحن امام خطر مواجهة داخلية مسلحة حقيقية، وأكثر مما نشاهده اليوم، رغم ما نسمعه من بيانات من هنا وهناك، حول اصرار الفصائل على منع وقوع حرب أهلية، تجري تحت حراب المحتل، وهذا يجعل الجريمة مزدوجة. أما الأمر الثاني، وهو ليس اقل خطورة، لا بل هو الأخطر على المدى الاستراتيجي البعيد، وهي حالة البلبلة الحاصلة في الشارع الفلسطيني، بسبب ازدواجية الخطاب، والانتقائية في الخطاب والممارسة، وخاصة في الاشهر الأخيرة، بعد الانتخابات البرلمانية الفلسطينية التي اسفرت عن فوز حماس بسبب طريقة الانتخاب، ونظرا لوضعية حركة فتح وغيرها من الظروف التي ليست هي موضوع هذه المعالجة. هناك القاعدة الواضحة تقول ان كل شعب واقع تحت الاحتلال متاحة امامه كل اشكال المقاومة، وطالما انه يعي ان المقاومة هي وسيلة لتحقيق الهدف، فعليه ان يختار الشكل المناسب والأكثر نجاعة بناء على الظروف الراهنة لكل مرحلة من المراحل، فهناك شعوب لم يكن بيدها سوى الكفاح المسلح، وهناك مثل الشعب الهندي الذي اختار شكلا نقيضا من أجل التحرر. ولكن ما هو واضح أكثر، ان شعبا غارقا في دوامة وبلبلة سياسية لا يمكنه ان يكون مجندا بالكامل في مواجهة المحتل، وهذا الوضع الخطير الذي نشهده على الساحة الفلسطينية في المناطق المحتلة منذ العام 1967، فنحن لا نلمس، في السنوات الأخيرة، معالم الانتفاضة الشعبية التي عرفناها وتعلمنا منها منذ نهاية العام 1987، وحتى مطلع سنوات التسعينيات، ويقتصر الكفاح اليوم على بضع بنادق هنا وهناك، حتى انها باتت مؤخرا تطلق في جميع الاتجاهات ومن بينها الاتجاه نحو الداخل، الى جانب بعض القطع المعدنية التي يطلق عليها "قذائف"، التي سماها أحد المسؤولين الاسرائيليين "قطع خردوات معدنية لا يمكنها ان تهدد اسرائيل". لقد وضعت الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في العام 1987 اسرائيل على محك، وفرضت عليها ضغوطا حتى من جانب أشد حلفاء اسرائيل مثل الولايات المتحدة، في فترة رئاسة جورج بوش الأب، وحين شنت اسرائيل عدوانها على الضفة الغربية وقطاع غزة في ايلول (سبتمبر) من العام 2000، أكثر ما تخوفت منه اسرائيل هو اندلاع انتفاضة شعبية على غرار تلك الانتفاضة، ولكن الانتفاضة الشعبية بمفهومها وشكلها السابق، كانت لبضعة اسابيع فقط لتنتقل الى "المواجهة" المسلحة، غير المتكافئة اطلاقا. وكتب في حينه الكثير من المحللين الاسرائيليين، بشكل واضح، عن تخوف اسرائيل من اندلاع انتفاضة شعبية غير مسلحة، وسعت طوال الوقت الى ابراز"المواجهة المسلحة الفلسطينية"، هذه "المواجهة" التي"تستطيع" وفق المعادلات الدولية ان تدعي ضرورة مواجهتها بكافة الاشكال، فبعد عدوان "السور الواقي" على الضفة الغربية في شتاء العام 2002، نشرت الصحافية الاسرائيلية التقدمية، عميرة هس، مقالا صريحا، قالت فيه إن اسرائيل تبالغ في حجم المواجهة المسلحة، من أجل "تبرير" عدوانها، ولكن للأسف فإن المقاومين الفلسطينيين، يصدقون المبالغة الاسرائيلية ويجعلونها مصدرا للمفاخرة والمباهاة. لقد حيدت هذه"المواجهة العسكرية" الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني من المشاركة الفعالة واليومية في مواجهة المحتل، وهذا أحد مخاطر السنوات الخطيرة، ولكن ما حيد أكثر الشعب الفلسطيني من النضال الجماهيري اليومي أمران، الأول، وهو ما ذكرناه هنا، حالة البلبلة وخلط الأوراق على الساحة الفلسطينية، والأمر الثاني هو الأوضاع الاقتصادية المزرية، فإسرائيل، ايضا، سعت في هذه المرحلة الى جعل لقمة الخبز للمواطن الفلسطيني شغله الشاغل، لشله وابعاده من دائرة النضال. إن الوضع المعقد الحاصل على الساحة الفلسطينية يطرح الكثير من الاسئلة، فالفصيل الفلسطيني الذي اختار المنافسة على قيادة الشعب، لا يستطيع ان يكون انتقائيا في خطابه، وتغليب الاهداف الحزبية على المصلحة الشعبية، والحديث موجه هنا، من دون مواربة، الى حركة حماس، وقوى أخرى تعتبر نفسها يسارية، فهذه القوى بخاصة حماس خاضت الانتخابات الفلسطينية على اساس اتفاقيات اوسلو، ولا يساعدها اي تبرير آخر، بمعنى انها وافقت ضمنا على هذه الاتفاقيات، لا بل انها تعاملت مع التقييدات الاسرائيلية على الحملة الانتخابية الفلسطينية، التي ادت الى فوزها بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، ولكنها في نفس الوقت تتنكر لهذه الاتفاقيات. لقد ساهمت حركة حماس بدور مركزي واساسي في خلق حالة البلبلة السياسية في الشارع الفلسطيني، وما أجج هذا موقفها الرسمي، من وثيقة الأسرى، ورفضها لإجراء استفتاء حولها، التي من يقرأ تفاصيل الوثيقة، وما بين السطور فيها يتأكد من أنها تحظى بشبه اجماع فلسطيني. من المؤكد ان فكرة الاستفتاء فيها ايضا قسط من اللعبة السياسية، ولكن بالامكان الاستفادة من هذه "اللعبة"، بأنها ستطرح برنامجا سياسيا واضحا، يكون مخرجا لمعضلة ازدواجية السلطة التي نشهدها اليوم، ورفض حماس لفكرة الاستفتاء، عدا عن ان بعض تفاصيل الوثيقة تتناقض مع الاهداف الاستراتيجية بعيدة المدى جدا، لحماس كحركة اصولية، فإنها ايضا تتخوف من نتيجة الاستفتاء الحتمية، التي ستكشف حالة التناقض في ممارستها السياسية. وما يثير القلق هو ان هناك قوى سياسية اخرى، في داخل مناطق 67، ولكن بالذات خارجها، ووضعيتها لا تتوافق اطلاقا مع منظور حماس، نسمعها تتملق في خطابها السياسي لنهج الحركة دون ان تواجهها صراحة بالحقيقة، كذلك جهات اصبحت تمتهن خلط الاوراق وبث خطاب طلاسم سياسي، عن وعي وادراك وسبق الاصرار، حتى بات الأمر يظهر وكأنها مهمة يقوم بها البعض، وهذا الحديث بالذات ليس موجها لحركة حماس، بل لقوى سياسية تتحرك في المنطقة بأسرها، من دول عربية وحتى في مناطق 1967 و1948. هناك عواطف وآمال، وهناك مصير شعب بأكمله، فمن منا لا يحلم بفلسطين حرة مستقلة؟! وحين اختار الشعب الفلسطيني بشبه اجماع، برنامج الحد الأدنى، بإقامة دولة فلسطينية على كامل حدود 1967، فلا يمكن ان يكون الشعب كله قد خان، هناك بون شاسع بين فهم الواقع والاعتراف به، وبين الرضوخ له، ففهم الواقع يساعدنا على اختيار الطريق الافضل للخروج منه. إن النضال المثمر يحتاج لأوسع قاعدة شعبية، وأكبر مشاركة من كافة قطاعات الشعب، وألا يقتصر على بضع مجموعات تتحرك هنا وهناك من دون بوصلة واضحة، فغياب البوصلة دمار للشعب بأكمله.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|