إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



وثيقة الأسرى بين مسؤولية التأييد والمعارضة الرومانسية

الثلاثاء 20/6/2006
هشام نفاع- "الاتحاد" الحيفاوية

يُفترض في كلّ جدل أن يطرح أسئلة جديدة، وليس أجوبة فقط. لأنّ ما يفضي اليه من طروحات جديدة، سرعان ما تصبح نفسها مفتوحة على مصراعيها نحو سؤال من نوع جديد. الجدل الذي لا يقدّم جديدًا يكون قد فشل بالضرورة. وقد يكون الجديد هو إعادة صياغة لما هو قديم أو ما هو متفق عليه. بل إنّ الجديد قد يكون من باب التذكير بما تشوّشت بشأنه الذاكرة لازدحام المسائل والمشاغل.
الجدل حول وثيقة الأسرى الفلسطينيين للوفاق الوطني يطرح عددًا من الأجوبة، ومثله من الأسئلة. أهم ما فيها هو إعادة تنظيم الأهداف السياسية للشعب الفلسطيني، من خلال ربطها بمشروع تنظيم الحالة السياسية الداخلية، أو ممارسات الحكم. فهي تعيد توثيق الربط الضروري بين الصمود والنضال والمقاومة، وبين الحكم النزيه والشفّاف غير الملوّث بأيٍّ من المفاسد. وكل هذا نحو إنجاز المشروع الأهم: التحرّر.
الجدل على مسألة الوثيقة، وخاصة من حيث الاقتراح بإجراء استفتاء عليها (كما اقترح الأسرى أنفسهم)، متشعّب. هناك من يتوقف عند الاعتبارات التكتيكية، وهناك من يحاول تقصّي اسقاطاتها استراتيجيًا. وهذا يشمل المؤيدين والمعارضين على حد سواء. وطالما يدور الحوار مهما سخن على هذا، فلا بأس. أصلا أيّ معنى سيكون للحوار بدون ذلك؟ في هذا السياق هناك من ينبّه الى ما يلي: هناك خيط رفيع فاصل بين جعل هذه الوثيقة وأشكال التصرّف بها محطة جامعة ورافعة لبرنامج سياسي فلسطيني موحِّد، وبين تحويلها الى ورقة تخدم صراعات فئوية على وهم السلطة. وهذا نقد لا يستثني أحدًا!
مع ذلك فهناك لهجة رفضية معيّنة تثير السخط. وهي تتجاوز الموقف المؤيِّد أو المعارِض المسوَّغ. فقد كان من الطبيعي أن تحظى الوثيقة بتعامل خاص لأنها صيغت خلف القضبان ورغمًا عنها. ومن وضعوها لم يحظوا بخدمات فندقية ترافق عملهم، خلافًا لمن ينعمون بشتى تجليات العصرنة. فليس في السّجون التي تقيّد أبناء الحركة الأسيرة ندّل ولا ماكينات إسبريسو ولا أجهزة لتكييف الهواء. هناك سجّان وسلطة ومخابرات يحاولون قمع إراداتهم. مع ذلك، أصرّت إرادة الحريّة على قول قولها. فجاءت هذه الوثيقة من العقل والقلب. ولكن، بعض دروب تلك الفئة من الناقدين المتأفّفين، لا تنتهي بجواب ولا بعلامة سؤال، بل بما يشبه شارة "طريق مسدود" أو "ممنوع الدخول". ويخيّل إليك أن تلك الدروب تقودك عنوةً من أنفك الى ممارسة العبث. قد يكون هذا جيّد في الأدب لكنه خطير في السياسة.
منعًا للالتباس، وزيادة في الاحتراس، وكما سلف، فمن الواضح والأكيد أن هناك مساحة واسعة متاحة، سواءً لتأييد الوثيقة أو لمعارضتها. ومن حق من يريد أن يلتزم الصمت بشأنها أيضًا.
ولكن يبدو أن فريق المهاجمين المتأفّفين لفكرة الاستفتاء على الوثيقة قد خانتهم الذاكرة ففاتهم ما جاء فيها. وإلا فكيف يقدِم البعض على تصوير الاقتراح بإجراء استفتاء على موقف الأسرى وبرنامجهم وكأنه يقترب من خدمة مشاريع واشنطن وتل أبيب؟ وكيف يمكن كيل الكلام "شبه النقدي" بالأرطال ولكن من دون مناقشة مضمون الوثيقة، وهو الأساس، بل مواصلة الدوران حولها حتى الدّوار؟ مع العلم أنها واضحة الطرح، متينة الصياغة وتفتقر للتغريب والتفذلك والإعجام. ليس من حيث المضمون والموقف، مبدأً وممارسةً، فحسب، بل أيضًا من حيث التسويغات التي استندت اليها والأهداف التي تطمح اليها، والحساسيات والتعقيدات والمستجدّات التي اخذتها بالاعتبار.
فقد ورد في مقدمتها أنها جاءت "انطلاقا من الشعور العالي بالمسؤولية الوطنية والتاريخية ونظرا للمخاطر المحدقة بشعبنا، وفي سبيل تعزيز الجبهة الفلسطينية الداخلية وصيانة وحماية الوحدة الوطنية ووحدة شعبنا في الوطن والمنافي، ومن أجل مواجهة المشروع الإسرائيلي الهادف لفرض الحل الإسرائيلي، ونسف حلم شعبنا وحق شعبنا في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة الكاملة السيادة".
وربما لأن الأسرى يعرفون البئر وغطاءها وما فيها، فقد اختاروا عدم ترك المسائل مفتوحة على التأويلات. وفصّلوا تفاصيل ذلك المشروع الاسرائيلي الذي يحذّرون منه بوصفه: "المخطط الذي تنوي الحكومة الإسرائيلية تنفيذه خلال المرحلة القادمة تأسيسًا على إقامة واستكمال الجدار العنصري وتهويد القدس وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية والاستيلاء على الأغوار وضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية وإغلاق الباب أمام شعبنا في ممارسة حقه في العودة".
بالمناسبة، فإن الهدف من الوثيقة مكتوب في مدخلها، وهو: "المحافظة على منجزات ومكتسبات شعبنا التي حققها من خلال مسيرة كفاحه الطويل ووفاء لشهداء شعبنا العظيم وعذابات أسراه وأنات جرحاه، وانطلاقا من أننا ما زلنا نمر في مرحلة تحرر طابعها الأساسي وطني ديمقراطي مما يفرض إستراتيجية سياسية كفاحية متناسبة مع هذا الطابع. ومن أجل إنجاح الحوار الوطني الفلسطيني الشامل، واستنادا إلى إعلان القاهرة والحاجة الملحة للوحدة والتلاحم".
ولم يفت الأسرى التوقف عند التركيبة السياسية الفلسطينية الجديدة، بكل تعقيداتها وحساسياتها، فأكدوا أنهم يوجهون وثيقتهم الى: "شعبنا العظيم الصامد المرابط، وإلى الرئيس محمود عباس أبو مازن، وقيادة منظمة التحرير الوطني الفلسطيني، وإلى رئيس الحكومة إسماعيل هنية ومجلس الوزراء، وإلى رئيس المجلس الوطني الفلسطيني وأعضائه، ورئيس المجلس التشريعي الفلسطيني وأعضائه، وإلى كافة القوى والفصائل الفلسطينية، وإلى كافة المؤسّسات والمنظمات الأهلية والشعبية، وقيادة الرأي العام الفلسطيني في الوطن والمنافي".
تضمنت الوثيقة 18 بندًا أحاطت بالهم الفلسطيني الراهن، وبمستقبل النضال الفلسطيني، استنادًا الى القراءة السالفة. وأدعو الى العودة لقراءتها بتمعّن كي لا تضيع الطاسة! ومن بنودها: "إن الشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي يسعى من أجل تحرير أرضه وإنجاز حقه في الحرية والعودة والاستقلال وفي سبيل حقه في تقرير مصيره بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها مدينة القدس الشريف على جميع الأراضي المحتلة عام 1967، وضمان حق العودة للاجئين، وتحرير جميع الأسرى والمعتقلين". وأكدت على ضرورة "تطوير وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وانضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وبما يتلاءم مع المتغيرات على الساحة الفلسطينية وفق أسس ديمقراطية، ولتكريس حقيقة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا". ودعت الى "تشكيل مجلس وطني جديد قبل نهاية عام 2006 بما يضمن تمثيل جميع القوى والفصائل والأحزاب الوطنية والإسلامية وتجمعات شعبنا في كل مكان وكافة القطاعات والمؤسسات والفعاليات والشخصيات على أساس نسبي في التمثيل والحضور والفاعلية النضالية والسياسية والاجتماعية والجماهيرية والحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية إطارا جبهويا عريضا وائتلافا وطنيا شاملا وإطارا وطنيا جامعا للفلسطينيين في الوطن والمنافي، ومرجعية سياسية عليا".
وتؤكد الوثيقة بما لا يحتمل التأويل، ويدحض أية تهمة بالرخاوة النضالية بالتالي، على "حق الشعب الفلسطيني في المقاومة والتمسك بخيار المقاومة بمختلف الوسائل، وتركيز المقاومة في الأراضي المحتلة عام 67 إلى جانب العمل السياسي والتفاوضي والدبلوماسي والاستمرار في المقاومة الشعبية الجماهيرية ضد الاحتلال بمختلف أشكاله ووجوده وسياساته، والاهتمام بتوسيع مشاركة مختلف الفئات والجهات والقطاعات وجماهير شعبنا في هذه المقاومة الشعبية".
واعتبرت "أن إدارة المفاوضات هي من صلاحية م. ت. ف ورئيس السلطة الوطنية على قاعدة التمسك بالأهداف الوطنية الفلسطينية وتحقيقها"، وأشارت "على أن يتم عرض أي اتفاق مصيري على المجلس الوطني الفلسطيني الجديد للتصديق عليه أو إجراء استفتاء عام حيث ما أمكن".
وتضمنت بنودًا أكدت على تحرير الأسرى والمعتقلين، ضرورة العمل ومضاعفة الجهد لدعم ومساندة ورعاية اللاجئين والدفاع عن حقوقهم والتأكيد على حق العودة والتمسك به، تشكيل جبهة مقاومة موحدة باسم جبهة المقاومة الفلسطينية لقيادة وخوض المقاومة ضد الاحتلال وتوحيدها وتشكيل مرجعية سياسية موحدة لها، التمسك بالنهج الديمقراطي وبإجراء انتخابات عامة ودورية وحرة ونزيهة وديمقراطية طبقاً للقانون، رفض وإدانة الحصار الذي تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل ودعوة العرب شعبيا ورسميا لدعم ومساندة الشعب الفلسطيني و"م. ت. ف" وسلطته الوطنية، الوحدة والتلاحم ورص الصفوف الفلسطينية ودعم ومساندة "م. ت. ف" والسلطة الوطنية الفلسطينية رئيسا وحكومة، نبذ كل مظاهر الفرقة والانقسام وما يقود إلى الفتنة وإدانة استخدام السلاح مهما كانت المبررات لفض النزاعات الداخلية، وتحريم استخدام السلاح بين أبناء الشعب الواحد والتأكيد على حرمة الدم الفلسطيني والالتزام بالحوار أسلوبا وحيدا لحل الخلافات، إصلاح وتطوير المؤسسة الأمنية الفلسطينية بكل فروعها على أساس عصري، وغير ذلك.
حسنًا، حتى هنا وبكثير من الاختصار. هذه هي القضية، وليس أيّ حلم رومانسي مهما بلغت بلاغته!
والسؤال: إذا كنا نتفق على حق الأسرى بطرح وثيقتهم الجامعة، وعلى أنهم لا يهدّدون بما ضمّنوها إياه بتقويض مشروع التحرّر الفلسطيني، كما يغمز البعض، وإذا كان من حق الأسرى مناشدة شعبهم عرض موقفهم لاستفتائه، فهل يصبح الاقتراح بالإصغاء الى الأسرى ضربًا من ضروب التفريط بالحقوق الفلسطينية؟!
وإذا كانت المسألة هي عرض هذه الوثيقة الجريئة والعميقة للاستفتاء، بهدف الأخذ برأي الشعب الواقع تحت الاحتلال في شأنها، فكيف يصحّ القول أن هذا الأمر يخدم "آخرين"؟ هل الاجراءات الديمقراطية الأخرى تخدم "آخرين" أيضًا وفقًا لهذا "المنطق"؟
وإذا كان الاستفتاء سيعتمد ما تقرّه أغلبية الجماهير الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، وهي نفس الأغلبية التي انتخبت الرئيس الفلسطيني والحكومة الفلسطينية الحاليين، فكيف يمكن أن يقدم البعض، عمليًا، على نزع شرعية نفس تلك الجماهير في التصويت على برنامج سياسي وضعه أبناؤها الأسرى؟
وإذا كان بعض المعارضين، خاصة من فلسطينيين يحملون الهوية الإسرائيلية، يهاجم اقتراح الاستفتاء على الوثيقة ويحذّر من النكبة الجديدة التي سيقود اليها، بينما "يتكتك" جيدًا ويمتنع عن قول رأيه الواضح فيما تطرحه مكتفيًا بالعموميات والمجاملات، وفي الوقت نفسه لا يزيدنا من علمه بخصوص ما يجب أن يفعله الشعب الفلسطيني بهذه الوثيقة – فما هو المطلوب إذن؟ هل نبروزها ونعلقها في الصالونات؟
ألا تخبرنا أبجديات السياسة الأولى بأن المعارضة شرعية والتأييد كذلك، لكن الحسم يكون لأغلبية أصحاب الشأن؟ أم أن قوانين اللعبة تتغيّر كربطات العنق والسيارات لدى البعض؟! لأنه إذا كانت الخطب والمدائح الديمقراطية تنفع لكل شيء، "للي بيسوى وللي بيسواش"، فلماذا لا تنفع هنا يا ترى؟ أم أن الديمقراطية ليست للجميع، بل لمن حظي بصفة النّخبة فقط؟! (وهذا سؤال تتعدى خطورته ما يجري مناقشته هنا!).
فليتفضّل المتأفّفون (وهؤلاء يختلفون عن المعارضين!) لقول الأمور بصراحة: هل يوافقون على مضمون الوثيقة؟ هل يتحفّظون على بنودها أو جزء منها؟ ألا يرون فيها برنامجًا سياسيًا ملائمًا ومتكاملا لهذه المرحلة؟ هل يشكّكون بنوايا واضعيها؟ هل يعتبرونهم قصيري النظر سياسيًا؟ لأنه إذا لم يكن لديهم اعتراض أو تحفّظ على مضمونها وتوجهها وشموليتها، فلماذا لا تكون الجماهير الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال هي من يقرّ ويحسم في مصيرها؟ أم ان هناك من يخشى "الاكتشاف" مجددًا أن الغالبية الساحقة من الشعب مصرّة على خيار التسوية التاريخية، وليس من واجبها مواصلة العيش في سجون الجدران والحواجز، حتى تظل قلة ضئيلة تنعم بالحلم وتتكسّب منه وهي تحمله معها من مطار الى آخر؟!
ثم أني لم أفهم بالمرّة كيف أن وثيقة بهذا المضمون ستخدم مصالح امريكا واسرائيل في حال تمّ قبولها؟ هل قرأ من يلمّح الى هذا ما جاء فيها حقًا؟! هل يعقل القول إن إعادة تأكيد الثوابت شعبيًا هو أمر محظور؟!
أخيرًا: هناك قضايا تحتمل العلاج بالمؤتمرات والورشات والمواعظ والفضائيّات. أما ما يخص مصائر وحياة وحقوق شعوب بأكملها في المراحل الحرجة، فمن الخطير الاقتراب منه لمن لا يضع المسؤولية فوق رومانسياته، مهما بلغت مشاعره من صدق.
وثيقة الأسرى للوفاق الوطني هي من النوع الثاني. لا تحتمل ترف المُترفين ولو بلغت أحلامهم قمة الأولمب!

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر