*طالت عملية المقاومة الجريئة جنوب قطاع غزة هدفًا عسكريًا. لذلك فهي شرعية تمامًا. رغم كل دموع التماسيح وحديث ببغوات الإعلام الرسمي الاسرائيلي. وهذا، بالمناسبة، ليس رأيي وحدي، بل تشاركني فيه حتى وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني!* وأيضًا: ما المغازي من هذه القضية، في سياق وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني؟*
لا يتألم الجهاز الحاكم في إسرائيل إلا في أعضائه العسكرية. فهناك يتركّز فخره كما لو أنه خصيتان ذكوريّتان من عصور الفحولات الوثنيّة. أما في سواها فلا يكون الأمر سوى دغدغة بل محفّز على مزيد من التعجرف الفظ. العملية العسكرية الأخيرة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية جنوب غزة تعيد إثبات ذلك. فالصفعة المقاوِمة للأنف العسكري المغرور مؤلمة أكثر من أي شيء آخر لدى من لا تسكنهم سوى أرواح آلهة الحرب. فهنا تشتعل الغرائز الأكثر انحطاطًا. تلك التي لم يؤدّ النشوء والارتقاء بالضرورة الى وأدها في البشر.
لقد طالت عملية المقاومة هدفًا عسكريًا لذلك فهي شرعية تمامًا. رغم كل دموع التماسيح وحديث ببغوات الإعلام الرسمي الاسرائيلي. وهذا، بالمناسبة، ليس رأيي وحدي بل تشاركني فيه حتى وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني. فقد قالت بوضوح في أواسط نيسان الأخير ضمن مقابلة لبرنامج "نايت لاين" الذي تبثه شبكة إي بي سي الأمريكية إن العمليات التي ينفذها المسلحون الفلسطينيون ضد الجنود الإسرائيليين "شرعية". وأضافت إنه يتوجب التفريق بين مسلح يحاول تنفيذ هجوم ضد جنود وبين من يحاول قتل مواطنين أبرياء. وحين سئلت حول ما إذا كانت ستمتنع عن وصف "مهاجم انتحاري ينفذ عملية ضد جنود على أنه إرهابي" ردّت ليفني بصراحة: "نعم". لم يكن ذلك زلّة لسان، لأنها اهتمّت بالإسهاب كالتالي: "لا يمكنني أن أدعوهم (أي المقاومين الفلسطينيين) مقاتلين من أجل الحرية، لكن عملية ضد جنود هو نضال مشروع أكثر من قتل مواطنين وأطفال ونساء". وتابعت أن "من يحارب ضد جندي إسرائيل هو عدو وسوف نحاربه لكنني لا اعتقد أن هذا يقع ضمن تعريف الإرهاب".
انتهت هذه العملية، التي تعترف بشرعيتها سيدة الدبلوماسية الإسرائيلية الأولى، بمقتل جنديين واختطاف ثالث. دون كلام كثير أقول إنهم، ثلاثتهم، شبان ضحايا الى حدّ ما. أشبه بلقمة خبز أو قطعة لحم عشرينية تلقمها للمدافع مؤسسة مغرورة متعجرفة، تضمّ في صدارتها الوزيرة ليفني أيضًا. طبعًا هذا الى جانب أن قسمًا من المسؤولية عن هذا المصير المأساوي هو ذاتيّ أيضًا، فلو كنت مكان الجنود لفعلت ما يفعله أصحاب الضمائر الشجاعة؛ لرفضت خدمة هذا النوع من العسكر. فهذه الدرب وحدها هي المنجاة الحياتية والأخلاقية معًا.
من هنا، فإن دماء الجنديين الشابين واختطاف الثالث يظلان في عنق المسؤولين عن تكريس حالة الصراع المسلّح. وهؤلاء ليسوا سوى من يقترفون الإرهاب الأكبر: الاحتلال التوسّعي الاستيطاني وتكريسه الذي يستمر عبر قتل أية تسوية سياسية متكافئة وهي في طور الجنين. إن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، التي لا تزال تفرض هذا الوضع الدموي باستماتة إجرامية، هي الملطخة بكل دماء الضحايا الفلسطينيين والاسرائيليين التي تمّ سفكها ضمن دوائر الفعل وردّ الفعل، فيما يواصل جنرالات السياسة والعسكر طقوسهم الدموية عند مذبح آلهة الحرب. على هذه الخلفية بالذات، جاء التحرّك العنيف البشع الذي أقرّته حكومة أولمرت - بيرتس وبدأ باقترافه جيش الاحتلال، ليعبّر عن حجم الألم الذي أحدثته عملية المقاومة في الأعضاء القومجيّة والعسكرية الاسرائيلية الحسّاسة. صحيح أن المنطق والتجربة يدلاننا على أن عملية اجتياح بهذا الحجم لم "تُجترح" خلال يومين، بل كانت مرسومة جاهزة في الأدراج، ولكن توقيت إخراجها الى الفعل هو ما يستدعي التوقّف. فقد تحدثت مصادر المؤسسة العسكرية للإعلام على الدوام، منذ "فك الارتباط" قبل حوالي سنة، أنها تملك سيناريوت لاجتياح برّي للقطاع "حسب الحاجة". وهذه المرّة، ولشدّة الصفعة العسكرية التي لا يمكن للمؤسسة تلوينها بالارهاب إياه وإطلاق سيل الولولة الخبيثة في أعقابها، تكرّر الامتحان والنتيجة. فكل القذائف يدوية الصنع التي قيل إنها تهدد مواطني سديروت وجيران الوزير الشرشوح عمير بيرتس، ظلّت تقابل باستثمار دعائي ترويجي لشدّ أزرار رداء الضحية على الجسد الاسرائيلي، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي. أما هذه العملية الشرعية الجريئة فقد طالت وضربت نظام إفرازات غدد التفوّق القومجي-العسكري-البلطجي. هنا، وليس من أجل الجندي المختطف، وليس من أجل أسرته، بل لتضميد جراح وهم التفوّق، أخرج مهووسو الهيمنة عملية حربية واسعة الى الفعل. وهذا ليس قبل أن يهتم إيهود أولمرت بإطلاق الرفض المتعنّت لأي تفاوض ممكن على إرجاع الجندي. مع أن المقاومة أبدت نضوجًا سياسيًا لافتًا حين طرحت صيغة تسوية ذات مضمون سياسي هام: تبادل أسرى، يشمل النساء والأطفال. ومثلها فعلت الحكومة الفلسطينية التي أكد متحدثوها على ضرورة عدم الإساءة للجندي الأسير. لكنّ مجارير غرائز الانتقام و "إثبات من هو الأقوى" فاضت في إسرائيل لتنحر أي منطق أو رشد سياسيين.
من السابق جدًا لأوانه تقدير خاتمة هذا الفصل الخطير. فحكومة الشخصيات متوسّطة القامة، الأولى منذ غياب جيل المؤسِّسين الاسرائيليين، (يشمل غياب شمعون بيرس رغم تجديد توزيره!)، تسعى لإثبات تاريخ صلاحيتها وفحولتها. ويبدو أن طيشها يصل حتى تطيير المقاتلات الحربية فوق اللاذقيّة. حكومة القامات المتوسّطة تريد الاثبات للمجتمع الاسرائيلي أنها قادرة على الدخول في معطف شارون الغائب. يكفي سماع ما ينفثه حاييم رامون حتى تتضح ملامح المأساة/المهزلة. وهي مساعٍ قد تنجح للأسف، بفعل الذلّ العربي الذي ينزف من عروش جميع أصحاب الفخامات والسموّ والجلالات في جميع العواصم العربية. وبفعل سيرك العهر والنفاق الدولي الذي فجّ رؤوسنا بحياديّته الميكانيكيّة الباردة كبرد الموت. ومن نافل القول، أن نذكّر بالدروع الواقية لجرائم الحرب، التي تنتجها عاصمة الارهاب الدولي الرسميّة الأمريكيّة.
ويظلّ من حق الشّعب الفلسطيني أن يسأل فرسان الكلام العربي من معظم النّخب القديمة والجديدة: هل ستسفر بلاغتكم اللفظية، التي يُشار إليها ببنان الوُسطى، عن شيء يمكث في الأرض؟ حتى الآن الجواب هو: "لا" مُجلجلة!
الأهم، أنه من غير الممكن عدم ربط بعض خطوط هذه القضية بالحالة الفلسطينية الداخلية. عنوانها الحالي هو مصير وثيقة الوفاق الوطني التي صاغها أسرى التحرر الوطني الفلسطيني. فقد تم التوصّل لاتفاق بتبنّيها. ومن أهم بنودها إعادة تنظيم المقاومة بحيث تنحصر في الاحتلال، موقعًا جغرافيًا ومنشآت وأذرعًا. وهي مناسبة للتذكير، بغير قليل من الأسف، بأن كثير من العمليات التي طالت مدنيين إسرائيليين صبّت في خدمة السياسة الاحتلالية. فقد حوّلتها الأيدي الاسرائيلية الحاكمة القذرة الى مادة خام لتسميم العقول بمعادلات الإرهاب، من خلال الإفادة الجديّة من وضعية دولية قصفت الرأي العام وشلّت رشده بأكاذيب محاربة الارهاب. وفي المؤسسة الحاكمة الاسرائيلية لا يحتاج أقطابها لكثير من الدهاء حتى يتقنوا الألعاب المنحطّة. فبعضها مسجّل على اسمهم بجدارة. لأنّ المدني الاسرائيلي الذي يتعرّض لضرر يتحوّل بسرعة الى لبنة أخرى في الجدار الفعلي والاستعاري الذي جيء به كي يصدّ أي تحرّك سياسي يجعل حكومات اسرائيل تضطر الى النزول عن بغالها ودباباتها ومشاريعها التوسّعية. ولن يكون من الزائد القول مرة أخرى إن من واجب المقاومة الفلسطينية تقييد نفسها بنفسها، بسقف الأهداف السياسية الوطنية الفلسطينية، المعبّر عنها في وثيقة الوفاق الوطني، بكل ما يعنيه ذلك من ناحية تحديد أدواتها وعناوينها وأهدافها وقصرها على ما يؤلم ويفيد. فالإسراف في استقلالية القرارات الفئوية غير المحتكِمة الى متطلبات الهدف الوطني الأكبر، سيعود وبالاً على مشروع الاستقلال والتحرّر، الذي هو هو الهدف الوطني الأكبر. حان الوقت (مرة أخرى!) لقراءة نقديّة شجاعة للسنوات الخمس الأخيرة، وتحديد الفرق بين أشكال المقاومة التي تؤلم الاحتلال الاسرائيلي وتكشف بشاعته، كعمليتها الأخيرة، وبين تلك العمليات التي يتلقفها حكّام اسرائيل كالغنيمة بين أيديهم بغية مواصلة ترويج فرية انعدام الشريك، وكذبة ضحويّة مؤسسة البطش الاسرائيلي، وسفالة كيل تهمة الإرهاب لشعب يحارب من أجل تحرره كسائر الإنسانية.
كلام:
"الصفعة المقاوِمة للأنف العسكري المغرور مؤلمة أكثر من أي شيء آخر" (جنود الاحتلال يرفعون جثث زملائهم بعيد عملية المقاومة النوعية، فجر الأحد)