لم تكن الحركة الإسلامية في موقعها من الحياة السياسية، وفي مواقفها وأفكارها وتركيبتها الاجتماعية تعبر عن مسار واحد متراكم، فقد تعرضت لتحولات كبرى في مرات ومحطات عدة، وأعيد إنتاجها وصياغتها لتكاد تكون حركة مختلفة عما كانت عليه من قبل. وأحاطت بها أيضا بيئة متحولة من السياسات والأحداث، غيرت كثيرا في مواقفها وعلاقاتها.
فقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين في منتصف الأربعينات في سياق مختلف عن نشأتها في مصر، إذ نشأت في الأردن على يد مجموعة من النخب الاقتصادية والبيروقراطية الأردنية من التجار والموظفين والقادة المحليين، مثل عبداللطيف أبو قورة، وإسماعيل البلبيسي، ومحمد علي بدير، وهزاع المجالي، وأحمد الطراونة، ومحمد الخطيب، وعبدالحليم بدران، وكان يغلب عليها الطابع الوطني والاجتماعي المتسق مع سياسات الدولة الأردنية في الأفكار والمواقف والبرامج. وربما يكون من أهم إنجازاتها في تلك المرحلة إنشاء "الكلية العلمية الإسلامية"، وهي مؤسسة تعليمية رائدة وعريقة؛ وإن كانت تبدو اليوم بعيدة عن الإخوان المسلمين، فإنها مازالت تعبر عن اتجاهات وطريقة تفكير وعمل الإخوان في الأربعينات، فالإخوان هم الذين تغيروا وليس الكلية.
وفي العام 1953 أعيدت صياغة الجماعة على نحو أبعد مؤسسها عبداللطيف أبو قورة وفريقه، لتحل مكانهم مجموعة من الشباب الذين يغلب عليهم التعليم الجامعي والصلة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وكانت هذه المبادرة بتنسيق ومبادرة من نجيب جويفل أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر، وكان جويفل أيضا أحد ضباط الجيش المصري، وقد هرب متخفيا العام 1948، ثم أعيد إليه الاعتبار بعد ثورة 23 يوليو العام 1952. وبرغم أنه خرج من مصر العام 1954 مختلفا مع عبدالناصر كما يبدو، فقد تبين فيما بعد أنه أحد ضباط المخابرات المصرية. وقد أبعد من الأردن العام 1957، ثم أبعد من سورية العام 1961.
والواقع أن جويفل وإن نجح في إعادة صياغة الجماعة، فقد كان ذلك أيضا متسقا مع منطقية مسار الجماعة وطبيعته. وقد لاحظت قيادة الجماعة، وربما بالتشاور مع الحكومة، دوره الاستخباري، وأوقفت الاتصال به، ثم أبعد من الأردن، ولكن بقيت صلاته مع الإخوان في سورية وفي الكويت متواصلة حتى أعلنت وظيفته الرسمية في السلطات المصرية.
وبدأت الجماعة تأخذ طابعا سياسيا، فقد شاركت في الانتخابات النيابية العام 1956، وحصلت على أربعة مقاعد من بين أربعين مقعدا. ودخلت منذ العام 1957 في تحالف استراتيجي مع النظام السياسي في مواجهة المد اليساري والقومي الذي اجتاح المنطقة. وهكذا، تحولت صيغة العلاقة والتعاون من اجتماعية ثقافية إلى سياسية، وظلت هذه الصيغة من العلاقة قائمة حتى العام 1985.
وحدث منذ نهاية الستينات تحول فكري وتنظيمي داخلي كبير، وهو تحول وإن لم يغير في صيغة وطبيعة علاقة الإخوان المسلمين وموقعهم في الحياة السياسية، فقد غير كثيرا من البنية التنظيمية والفكرية لجماعة الإخوان المسلمين. فقد أسندت قيادة الإخوان منذ أوائل السبعينات إلى مجموعة شابة جديدة، وانسحبت المجموعة القيادية للإخوان التي قادت الجماعة بين العامين 1953-1970، وطغت على الجماعة أفكار إسلامية جديدة مستمدة من كتب سيد قطب ومحمد قطب، ويغلب عليها التشدد السياسي والفكري. وما زالت الجماعة تخوض جدلا وتجاذبا داخليا كبيرا بين أفكار واتجاهات المؤسس حسن البنا الإصلاحية السياسية، وبين أفكار سيد قطب وتلاميذه التي تدعو إلى التميز والمفاصلة. وقد عززت الموجة الإسلامية في السبعينات والموجة السلفية التي تنامت معها الاتجاه القطبي.
ولكن الجماعة بدأت منذ أواخر الثمانينات، ومع الانفتاح السياسي الكبير الذي حدث في الأردن، بالتحول من جديد نحو المشاركة السياسية، وإن بقيت تتجاذبها اتجاهات سياسية وفكرية وتنظيمية داخلية لم تتوقف، بل تواصل تفاعلها لتعيد تشكيل الحركة الإسلامية وفق اتجاهات أكثر عمقا في اختلافها.
وربما يكون حان الوقت لتعيد الحركة الإسلامية صياغة نفسها من جديد وفق الاتجاهات والتحولات الكبرى التي جرت حولها وفي داخلها أيضا، وقد يكون أقل كلفة وألما أن تبادر هي إلى ذلك.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo