مع إعلان الولايات المتحدة، في عهد إدارة الرئيس بوش تحديدا، تبنيها نشر الديمقراطية في العالم العربي باعتبارها اللقاح الأمثل ضد ما يسمى التطرف والإرهاب الذي بات غير مقبول بعد أن طال الأرض الأميركية ذاتها في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهو ما لم تتجرأ عليه حتى دولة عظمى في السابق، انطلق المختصون والمهتمون العرب يمحصون في مؤشرات الديمقراطية، ويبحثون في متطلباتها الموصلة إليها، إن لم يكن رَغَبا في خيراتها، فرَهَبا من غزو بدا جليا في تموضعه على أجندة إدارة لا تحمل أرقى درجات الحضارة الإنسانية المتمثلة في الحضارة الأميركية فحسب، بل ويقع عليها عبء حمل رسالة الخير الإلهية إلى العالم أجمع.
غير أنه في خضم السعي العربي إلى جنة الديمقراطية الموعودة، كانت الحقائق على الأرض تثبت نوايا أميركية مناقضة تماما؛ فإدارة الرئيس بوش لم تكتف بالتخلي عن الديمقراطيين العرب، بل شنت أيضا حربا لا هوادة فيها، تقترب من الإبادة الإنسانية، على الشعب الفلسطيني ككل، تجويعا وإطلاقا ليد جيش الاحتلال الإسرائيلي المجهز بأحدث الأسلحة الأميركية الضرورية، أما الجريمة التي استدعت هذا الانتقام أو العقاب، وكما بات معروفا، فلم تكن سوى التلاقي مع المطلب الأميركي بممارسة الديمقراطية، وبدرجة من النزاهة التي يعز نظيرها على مستوى العالم العربي ككل!
لكن، إن صدقت نوايا الرئيس بوش في البداية فعلا، فهل قرر الآن التخلي عن رسالة الرب، راضيا بتحمل إثم معصيته، ليكون كل حديث له اليوم عن الاستمرار في دعم الحرية والديمقراطية هو محض كذب مفضوح؟ الإجابة ببساطة هي لا؛ وبعبارة شديدة الوضوح: مايزال الرئيس بوش على عهده الأول، مصرا على حمل رسالة الديمقراطية ونشرها في العالم العربي، أما الدليل الأخير على ذلك غير القابل للجدل أو التأويل فهو القانون الذي أقره مجلس الشيوخ الأميركي يوم الجمعة الماضي.
فالقانون الذي يتمم حلقات الحصار على الشعب الفلسطيني بأكمله، بعد اختزاله في حركة حماس الموسومة بالإرهاب كونها ترد على إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، هذا القانون تضمن استثناء ملفتا، وهو "تقديم 20 مليون دولار للمساعدة في عملية نشر الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية"، ليبدو هنا أصل خطيئة العرب، كما غيرهم طبعا، في إدراك النوايا الأميركية، وبالتالي الإساءة إلى صدقيتها وجديتها.
فقرار الكونغرس الخاضع لإدارة الرئيس بوش يفصح بكل جلاء أن الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ولربما الانتخابات الرئاسية التي سبقتها، ورغم كل الإشادات الدولية غير الأميركية، لا تمت بصلة إلى الديمقراطية التي تفهمها أميركا وتريد خلقها في الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل، وهي الديمقراطية المختلفة حتما عن كل النماذج التي يحفل بها التراث الإنساني منذ عهد أثينا وحتى اليوم، وليغدو كل سعي عربي إلى الديمقراطية خارج نطاق العقل الأميركي المحافظ بمثابة سير على طريق الانتحار الجماعي.
ما ينطبق على المفهوم الأشمل ينطبق حتما على المفاهيم الجزئية المكوّنة له. وإذا كانت الأكثرية قد نسيت تعريف أحد قادة أركان تحرير العراق، دونالد رامسفيلد، للحرية غداة سقوط بغداد، بأنها عمليات السلب والنهب التي اجتاحت العراق من شماله إلى جنوبه، معبدة الطريق لارتكاب فظائع التطهير الطائفي لاحقا، فهناك من يعود إلى التذكير بمضامين الحرية كما العدالة الأميركيتين المقدمتين للعرب.
ففي مقالته المنشورة في صحيفة "واشنطن بوست" في نيسان الماضي، يحذر "كالب كار" (Caleb Carr)، المحاضر في العلوم العسكرية بكلية بارد (Bard College)، الإدارة الأميركية من السعي إلى منع حرب أهلية قادمة في العراق، والسبب أن نشوب هكذا حرب بقرار عراقي إنما ينسجم مع الهدف المعلن للرئيس بوش لغزو العراق، وهو "تحرير الشعب العراقي"؛ وإذا "كان الدخول في حرب أهلية هو القرار الأول للشعب العراقي كشعب حر، فكيف للولايات المتحدة أن تمنعهم من اتخاذ هكذا قرار؟"، سيما وأنه سيسمح للعراقيين من شيعة وأكراد بتحقيق "العدالة" ايضا، عبر الاقتصاص من السُنّة الذين ساندوا صدام حسين، ومكنوه من ارتكاب فظائعه سابقا.
ربما أن "كار" ليس صانع قرار رسميا في الإدارة الأميركية، كما لا يجب ابتداء افتراض أنه عنصري حاقد على العرب، ذلك أن مطلبه لا يعدو أن يكون مجرد بلورة صادقة للنتيجة النهائية للسياسة الأميركية في العراق منذ الغزو.
حتما الحقائق السابقة سبب لنشوة المنتصر لدى القوميين والإسلاميين العرب الملتفين حول الديكتاتوريات العربية التي تقول بالكلمات والشعارات فقط إنها ضد المشروع الإمبريالي الأميركي، لكن نصر أولئك القوميين والإسلاميين ليس على أميركا أبدا، بل على الديمقراطية والإنسان العربي الذي بات مخيرا فقط بأي يد يفضل أن يموت ؟
manar.rashwani@alghad.jo