طوال عهد الشاه، كانت إيران بالنسبة للولايات المتحدة شرطي المنطقة التي تمثل بشريان حياة القرن العشرين، وما بعده ربما، الأمر الذي استوجب تجهيز الشرطي بكل ما يلزم لأداء دوره على الوجه الأكمل، بدءا من السلاح التقليدي وحتى الدعم النووي منذ العام 1957، والذي يشكل النواة الحقيقية للبرنامج النووي الإيراني المثير اليوم لهلع أميركا وإسرائيل.
ولذلك، فعندما كانت الجماهير الإيرانية تجتاح شوارع طهران لإسقاط الشاه امتثالا لعقيدة عمادها الاساس العداء لأميركا، أو "الشيطان الأكبر" كما لقبها الخميني، لم تكن الولايات المتحدة تخسر مجرد حليف في المنطقة، بل هي كانت أشبه بالساحر الذي انقلب عليه سحره، فتوجهت إلى صدره ذات الأسلحة التي صنعها ودفع ثمنها، وسلمها بكل رضا إلى عدوه اللدود.
وبرغم هذه الخسائر المضاعفة، لم تملك الولايات المتحدة إلا أن تتخذ موقف المراقب غير القادر على التدخل إلى حين انجلاء غبار الثورة، وللدخول فقط في مفاوضات مع خاطفي ديبلوماسييها. أما سبب العجز الأميركي أمام قوة رجل الدين الذي سيكون حاضرا بتأثيره في السياسات الإقليمية كما العالمية، فهو التأييد الشعبي العارم، والمتحفز بالتالي على الإطاحة بكل ما يعترض طريقه.
لربما كان درس إيران الخميني في العام 1979، برغم كل ما شابه وسيشوبه بعد ذلك من تعاون وتنسيق مع "الشيطان الأكبر" وإسرائيل، جديرا بالتأمل في العام 2006 من قبل من يقولون إنهم يتعرضون لهجمة إمبريالية أميركية بسبب مواقفهم (اللفظية والشعاراتية) القومية العربية، لكن القيادة وقد حسمت أمرها معلية شعار "لا صوت يعلو على صوت الفساد ورجالاته"، فلم يعد جديرا بهذا التأمل إلا تلك المعارضة التي تقدم نفسها باعتبار أنها "الخلاص الوطني" للشعب المقهور السائر على ركب التخلف بحكم عقود من الانغلاق والديكتاتورية. لكن خلاص تلك المعارضة إذ يسمى "وطنيا"، فهو قابل لأن يكون عبر أي بوابة إلا البوابة الشعبية، بما في ذلك البوابة الإسرائيلية وبوابة الفساد التي يتسلح الجميع بشرعية محاربته، ولو بالألفاظ والنوايا على أحسن تقدير!
فردا على سؤال وكالة رويترز للأنباء في 24 حزيران الماضي: "لو كان الإخوان المسلمون في السلطة، هل ستفتح مفاوضات مع إسرائيل؟"، كان رد المراقب العام للجماعة، علي صدرالدين البيانوني، حرفيا كما عمم عبر الجماعة: "ما دامت هناك أراضٍ محتلة، ينبغي تحرير هذه الأراضي بكل الوسائل الممكنة. الوسائل السياسية مقدمة طبعاً... أن يتم انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عن طريق المفاوضات، فهذا شيء طيب، أما إذا لم يتم الانسحاب فمن حق الشعوب التي تُحتلّ أراضيها أن تحررها بكل الوسائل المشروعة". فهل بقي بعد كل هذه الصراحة في مد اليد إلى إسرائيل ما يحتاج توضيحا أو تصحيحا؟
إجابة البيانوني ليست ملفتة بذاتها، وعلى من نسي أن يراجع ما سمي "المشروع الوطنيّ للتغيير"، الصادر عن جبهة الخلاص الوطني في آذار الماضي، إذ نص المشروع تحت بند "في العلاقات الدولية" على أنه "تلتزمُ الجبهةُ بسياسة الحوار، لضمان مصالح سورية، والدفاع عن حقوقها، وفقَ ما يمليه القانونُ الدوليّ وقواعدُه العامة، بعيداً عن المغامرات التي تضرّ بمصالح البلاد". ولذلك، فإن قيمة تصريحات فضيلة المراقب العام، المحرّفة أو المصححة على السواء، هي تذكير الغافلين، ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل، عن التغير الحاصل في موقف الجماعة وجبهة الخلاص الوطني على صعيد واحدة من أهم القضايا بالنسبة للولايات المتحدة، وهي التعاطي مع إسرائيل والتفاوض معها.
وإذا كان إعمال السياسة بدلا من الشعارات والكلمات الكبيرة الجوفاء هو مطلب كل من يريد إصلاحا حقيقيا في سورية وغيرها، فإن الغريب هنا في موقف الجماعة أن يكون بند السلام مع إسرائيل، والذي إذا ما وضع في إطار مجمل تصرفات الإخوان المسلمين السوريين منذ التحالف مع عبدالحليم خدام، أحد أركان النظام السوري في ذروة تجليه ديكتاتورية وفسادا، بدا جليا أن كل هذه التصرفات هي بمثابة قرابين تطهّر من الصبغة الدينية الموسومة بها، أملا في قبول يسمح للجماعة باحتلال مقاعد أركان النظام السوري الحالي.
لكن إذا كانت الجماعة تسعى فعلا إلى نفي تهمة الصبغة الدينية عن نفسها، فالأولى بها بدلا من التحالف مع الفاسدين والأعداء أن تعلن تغيير اسمها أولا وقبل كل شيء، فهذه هي الطريق الايسر والتي قد لا تثير الجدل بشأن أي تنازل أو تهافت لاحقين.
manar.rashwani@alghad.jo