(1) بمرور كل يوم يظهر بوضوح أن المغامرة العسكرية الاسرائيلية في لبنان أعقد مما تخيّله الحالمون بها. فقد أخرجوا خطتها المرسومة المبيّتة من الأدراج مرّة واحدة، (آخر تدريب عليها أجري قبل شهر واحد - هآرتس، الجمعة)، ثم حطّوا بنيرانها بانحطاط على لبنان المدنيّ بقوّة تدمير وحشية مرّة واحدة، وقد رفعوا فوقها أهدافًا مستحيلة التحقيق بيدٍ واحدة. ولكن اليوم تمرّ عشرة أيام من الاستعراضات الجويّة الدموية، دون أيّ حسم يُذكر.
يجب القول، حتى لو لم تكن خبيرًا عسكريًا، إنه لا يمكن دحر حركة مقاومة ضاربة الجذور، أصيلة، واقعية، وذكية كالمقاومة اللبنانية، حتى من جيش يصنّف كخامس أقوى جيوش العالم. فإسرائيل الرسمية لا تملك حتى اليوم سوى لغة الإملاءات، على الجميع، وهي لغة لا تشجّع سوى المقاومة بشتى أشكالها. ثم إنها هي نفسها تعترف باستحالة الأمر، عبر نزولها التدريجي في غضون أسبوع، على سلالم شجرة الأهداف العالية التي تسلّقها قباطنتها المنفوخون. فبعد أحاديث السحق والمحق والدّحر والتفكيك الشامل، لم يظلّ من كل ذلك سوى هدف إبعاد المقاومة عن الحدود. (الناطقة بلسان الجيش، الجمعة، زعمت أن الجيش لم يضع تلك الأهداف. لربما أنها لم تسمع وزراء الحكومة ولا جنرالات الجيش ولم يكن لديها وقت لمشاهدة البث التلفزيوني مؤخرًا!).
كابوس "الوحل اللبناني" يخيّم. عدد من المعلقين يرمون بالكلمة المرعبة "فيتنام" في بعض تقاريرهم المقصوفة بالرقابة العسكرية. نتائج الاشتباكات البريّة بين وحدات النّخبة الاسرائيلية من الكوماندوز وبين مقاتلي المقاومة تؤشّر على مصاعب يعترف بها رسميّو اسرائيل.
من هنا بات كل الجهد ينصبّ على محاولة الهرب.
هناك مهرب للوراء، وهو سياسيّ بالضرورة قادر على حقن الدماء. خطوطه واضحة، وقف للعدوان الحربي واتفاقية تبادل أسرى. لكن هذا المهرب يخيف البعض. فهو سيعرّي أقفية قبضايات الحكومة، لأن هناك من سيسألهم عن مصير الأهداف العملاقة التي وضعوها قبل أسبوع ونيّف فقط. فمن قال إن صمت نتنياهو ومن يقف على يمينه هو صمت أبديّ؟ ومن قال إن أولمرت لا يقضم أظافره قلقًا وهو يتخيّل مصيره السياسي وهو يعود يجرجر أذياله من مغامرة تموز 2006 بأقل بكثير مما ثرثر به من "أهداف طموحة"؟
لذلك، بالمقابل، هناك أيضًا مهرب للأمام. وهو متعدد المسارات وشديد الخطورة. أول مساراته الاجتياح البري الذي بُذلت كل الجهود (الجبانة) للالتفاف عليه نظرًا لفداحة ثمنه التي لا يخفيها أحد في المؤسسة الحاكمة. وهو أقصر الطرق لتوريط المنطقة في حرب طويلة. هناك مسارات أخرى. ربما يكون أحدها توسيع رقعة الدماء والنيران للتغطية على الفشل. أشبه بتوسيع رقعة القتال والقتل حتى تصبح ذاكرة الرأي العام الاسرائيلي أقصر مما هي عليه الآن (طولها يُقاس بالسنتيمترات) فلا تعود قادرة على تذكّر حتى مسافة زمنية تُقاس بأيام معدودة، لطرح السؤال البسيط: كيف بدأ كل هذا؟ جنديان أسيران؟ ولكن من يتذكرهما الآن؟!
أمام مهاويس سلطة كهؤلاء، من غير المستَبعَد أن نرى جبهة حرب بهذا الحجم أو ذاك تُفتح ضد سوريا مثلا. رغم كل "التطمينات". فحين يبدأ المغرورون بالغوص في الوحل يصبح من الصعب توقّع ردود أفعالهم. وتزداد الخشية من هذا السيناريو إزاء التقدير بأن هذه الحرب ليس اسرائيلية فقط. بل إنها حرب أمريكية جديدة (أو مكمّلة للمشروع الأمريكي في المنطقة) وتُدار بأيدٍ إسرائيلية. القرار بشأنها يُطبخ في العاصمة الحقيقية، واشنطن. وهي، بالمناسبة، العاصمة التي يقودها راعي بقر مشهور من تكساس، يملك العديد من حظائر الماشية في مُعظم قصور عواصم العرب!
(2)
فيما يلي بضع هوامش:
(أ): ايهود أولمرت حازم حاسم صارم والى آخر القائمة. فهو لا يزال يرفض يوميًا أي تفاوض من أجل تبادل أسرى. رفض ذلك مع المقاومة الفلسطينية بعد أسر الجندي، ويعلن أنه يرفضه مع المقاومة اللبنانية أيضًا. هذا مع أن التاريخ القريب يشمل صفقات تبادل اسرى غير قليلة.
من الواضح أن هناك من يتخبّط في رأس الهرم الاسرائيلي. هذا التعجرف الرفضي غير قادر على حمل حفنة ماء، ولا يمكنه أن يأتي بأية نتائج.
مطلع أيام الحرب، خلال نشرة الأخبار المركزية في القناة الرسمية الاسرائيلية (الأولى) أجرى المذيع حاييم يفين مقابلة مع الجنرال المتقاعد يوسي بيليد. وقال له في ختامها ما معناه: أريد قول ما يلي، وهو أننا سنضطر الى اطلاق سراح أسرى في النهاية..
بيليد ردّ متهكمًا بالقول: أرجو أن لا أحد يسمعنا.. لكني أعتقد أنك على حق!
مقولة واضحة، بالبث المباشر، في القناة الرسمية، ومن جنرال مجرِّب!
(ب): قال حاييم رمون في مقابلة لموقع واي نت، أول أيام الحرب، إنه يجدر بسكان شمال البلاد "العض على النواجذ"، بمعنى تحمّل ثمن المغامرة العسكرية التي تشنها الحكومة الاسرائيلية في لبنان، والحفاظ على الصمت. وأضاف ببرود: "ستكون هذه الفترة قاسية بالنسبة لهم (سكان الشمال) لكننا ملزمون بمحاربة حزب الله".
هناك العديد من الردود على هذا المستوى من الانحطاط. لكن من الأفضل نقل ردود لقراء إسرائيليين غاضبين، في الموقع نفسه. وغالبيتهم بالمناسبة ليسوا بالضرورة من العقلانيين. بل إنهم غالبًا من أولئك الغوغائيين الذين يدعون بجرّة قلم الى "إحراق لبنان" و "تكسيح اللبنانيين".
فيما يلي ما حملوه في جعبتهم للوزير:
"سيد رمون لربما تعضّ على النواجذ وتصمت".
"كفى لهراء اعضاء الحكومة".
"لماذا يسمحون لعديم الانسانية هذا بالكلام".
"لقد عضضنا كثيرًا على النواجذ، فيما انت تواصل عضّ الوسائد"..!
"رمون، سئمنا منك. أغلق فمك".
"أنظروا من يقودنا"!
"لربما يسد رمون فمه وكفى".
"رمون، حين اراك يصيبني الغثيان، منك ومن زملائك في الحكومة".
"من سكان الشمال الى رامون: الأفضل أن تسدّ فمك".
وأيضًا: "آن الأوان لعضّ رمون"!
حاليًا لا تزال معزوفة "مناعة الجبهة الداخلية" تتفاعل. رغم أن الأسطوانة مشروخة. لكن جمهور مستمعيها يتراجع كثيرًا، بل يغادر القاعة جنوبًا. وهذا يُكتب من حيفا..
(جـ): من بين كل الوجبات السياسية الفاسدة التي تنهمر علينا كالصواريخ، هناك وجبة معيّنة عسيرة على الهضم إسمها مواقف وممارسة عمير بيرتس.
المحرّر الأدبي في "هآرتس"، الكاتب بيني تسيبر اعتبر في عامود يكتبه أن لدى اسرائيل اليوم "وزير أمن متخلّف" وأردف "ليس لأنه من أصل مغربي" (الكاتب نفسه ليس أشكنازي بل من أصل تركي)، بل لأنه يظنّ نفسه نابليون من خلال الأهداف السياسية المستحيلة التي يريد تحقيقها بالحرب. فهو يريد تغيير نظام الأمور في المنطقة، لا أقلّ. كيف؟ بواسطة القوة العسكرية.
لا أحبّ كلمة متخلّف ومشتقاتها. من هنا، لربّما أن بيرتس متقدّم، يسبق زمنه ويسبقنا جميعًا بزمن كبير. لربما أن عملية الإنزال الائتلافية التي حطّت به في وزارة "الأمن" جعلت المفاهيم تختلط عليه. هذا الشخص الذي كان من مؤسسي "سلام الآن" بات اليوم يظنّ نفسه رومل أو مونتيغومري أو كليهما معًا.. في العادة يُقال إن الجنرالات يسكرون بقوّتهم. فهل أن بيرتس عبّ بشراهة كميات قمامة عسكرية تفوق طاقته، ففقد الرّشد؟
ثم ما معنى كل هذا طالما أن اثنين من أعضاء "قيادة الأركان العسكرية المناوبة"، الجنرال غادي أيزنكوت، قائد وحدة العمليات، وزميله سامي تورجمان، يبذلان كل جهد لاعتلاء سكة سياسية توقف العملية الحربية (بحسب هآرتس، الجمعة). تلك الهيئة تضم أربعة جنرالات، يملك كل منهم صلاحية تولي منصب القيادة العليا في أية لحظة، وفقًا للظروف. ويشارك المذكورين نفس الموقف عددٌ من أعضاء هيئة الأركان العامة، يبرز بينهم مسؤولون استراتيجيون. يبدو أن جنرال الغفلة عمير بيرتس لا يراهم عن بعد شبر واحد! فأنظاره تنصبّ على رئاسة الحكومة المستقبلية التي يستثمر الآن لاحتلالها ما يجب من سفك دماء وتدمير وعنجهية مقيتة اعتقدنا مرّة أنها لا تميّزه!