أسرع حروب إسرائيلالاثنين 31/7/2006 برهوم جرايسي- مجلة "الطريق" الفلسطينية
*سرعة الحرب ليس فقط بشكل إقرارها، وإنما بتطوراتها على الساحة الداخلية الإسرائيلية *فبسرعة فائقة حظيت الحرب بشبه إجماع صهيوني نتيجة الأجواء الإعلامية المجندة المستفيدة من أجواء الغطرسة والعسكرة في المجتمع الإسرائيلي *وبسرعة كبيرة بدأت تظهر تشققات في الإجماع على وقع تكبد الخسائر وفشل تحقيق الأهداف*
كثيرة هي السمات المميزة للحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على لبنان وشعبه، خاصة على الصعيد الداخلي، فهي ليست مجرد عملية عسكرية "خاطفة"، بل هي حرب ستضع إسرائيل أمام أوضاع جديدة في مختلف المجالات السياسية الداخلية والخارجية، والاقتصادية، وحتى المكانة العسكرية الإقليمية، فالكثير من التفاصيل الدقيقة في إسرائيل ستتغير، متى انتهت الحرب، كما للفترة الزمنية سيكون تأثير على ما سبق. وإحدى السمات المميزة لهذه الحرب هي السرعة في كل شيء، في اتخاذ القرار الرسمي للشروع بها، وسرعة تجنيد الرأي العام الإسرائيلي ليساندها بحدة، بعد تجند كافة وسائل الإعلام الإسرائيلية، الرسمية والتجارية تقريبا، لتأييدها، وسرعة تراجع بعض الأوساط، وبدء ظهور أصوات المعارضة في داخل الحلبة الصهيونية، وهذا يعكس حالة التخبط التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي.
حرب 1982 تعكس نفسها
منذ اللحظة الأولى للحرب كان واضحا أن التاريخ يعيد نفسه في إسرائيل، فقد أعلن قادة إسرائيل إنهم ينطلقون إلى هذه الحرب للقضاء على المقاومة اللبنانية، "بضربة واحدة"، كما أعلن وزير الحرب أريئيل شارون في حزيران/ يونيو 1982، انه "سيدخل" إلى لبنان لمدة 48 ساعة للقضاء على المقاومة الفلسطينية، ولكن إسرائيل خرجت من هناك بعد 18 عاما. وأيضا هنا، ففي حين بدأت الحرب، يوم الأربعاء الثاني عشر من تموز/ يوليو، كان الحديث يجري عن انتهائها في نهاية نفس الأسبوع، وبعد ذلك جرى الحديث عن 10 أيام، وهي الآن تنهي أسبوعها الثالث، دون رؤية أفق لانتهائها. كذلك فإن الأهداف العسكرية والسياسية التي أعلنتها إسرائيل، مثل "القضاء على المقاومة" و"اغتيال قادة حزب الله"، وجعل الحزب "يرفع الراية البيضاء"، كلها سقطت، مما جعل محللين إسرائيليين يبحثون في الكثير من دروس حرب لبنان 1982، التي رغم المآسي التي غرستها في لبنان، إلا أن إسرائيل أيضا دفعت فيها ثمنا باهظا. فمع انتهاء الأسبوع الثاني للحرب الجارية، نشر المحلل السياسي البارز في صحيفة "هآرتس" ألوف بن، مقالا مطولا، حول كيفية اتخاذ قرار الحرب في الحكومة الإسرائيلية، مؤكدا أن القرار كان متسرعا، وحتى من دون دراسة أبعاده، ويكتب بن، "إن قرار الانطلاق لشن عملية عسكرية واسعة في لبنان، كرد على خطف جنديين قرب زرعيت في 12 تموز/ يوليو، تم اتخاذه بسرعة قصوى، فقد قرر رئيس الحكومة إيهود أولمرت، تقريبا فورا، الشروع بعملية عسكرية شديدة، وفي ساعات المساء عقد جلسة للحكومة لتقر شن ضربات جوية على مطلقي قذائف حزب الله، وضرب رموز الحكومة اللبنانية، وعلى رأسها المطار الدولي في بيروت". ويضيف بن كاتبا، أن حتى سؤال الوزير شمعون بيرس عن المراحل التالية لتلك الضربات بقي من دون أي جواب، "وبعد يومين اتخذ الطاقم الوزاري المقلص قرارا بأغلبية أربعة وزراء ومعارضة إثنين، بقصف المبنى المركزي لحزب الله وبيت الأمين العام حسن نصر الله، وكان معنى القرار هو التصعيد". ويتابع بن، "أما القرار الاستراتيجي الثالث، الذي لم يتم عرضه على الجمهور بشكل واضح وصريح، كان اجتياح قوات برية لجنوب لبنان من أجل طرد أجهزة إطلاق القذائف التابعة لحزب الله". ويريد بن في هذا أن يعيد إلى الأذهان آلية اتخاذ قرار الحرب على لبنان 1982، التي تعرضت لانتقادات واسعة في داخل إسرائيل، ولاحقا كانت هذه إحدى النقاط التي عالجتها لجنة التحقيق الرسمية في حينه، "لجنة كهان"، التي كان من أهم توصياتها عدم تكليف شارون بحقيبة ذات طابع أمني".
إنهيار الإلتفاف حول النار
في صبيحة اليوم التالي للحرب ظهرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بكبار كتابها، صنّاع الرأي العام في إسرائيل يؤيدون الحرب ويمجدونها، "فهذه الفرصة السانحة للقضاء على العدو"، ونذكر من بينهم المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرنوت" أليكس فيشمان، الذي أرادها حربا شاملة: "على الرد الإسرائيلي أن يكون شاملا، عدة أيام من عاصفة النيران، وبالأساس من الجو، وأن لا تبقي أي موقع واحد لحزب الله على حاله، ففي المكان الذي فيه تهديد استراتيجي فإن الرد يجب أن يكون استراتيجيا"، ونبه فيشمان حكومته إلى ضرب قوى أخرى في لبنان لم يحددها. أما المحلل العسكري في "هآرتس" زئيف شيف، فقد دعا إلى ضرب لبنان واستثناء سورية، "لا يوجد أمام إسرائيل أي مفر إلا أن تثبت للبنان أنها مسؤولة عما يجري على أرضها ومن أرضها، ومن المؤكد أن لبنان ستشتكي من الضربات الإسرائيلية على أرضها، إلا أن على حكومتها أن ترى نفسها مسؤولة عن أعمال حزب الله،... وخاصة على ضوء عدم تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح حزب الله". وهناك الكثير من الأسماء البارزة، مثل ألوف بن السابق ذكره في أيام الحرب الأولى وعاموس هارئيل في "هآرتس"، ودان مرغليت وعمير رابابورت في صحيفة "معاريف" وغيرهم، وللحقيقة فإن كلمة هيئة التحرير لصحيفة "هآرتس"، والمحلل السياسي آري شفيط كانا الصوت النشاز في ذلك اليوم. وهذه الأسماء المذكورة هنا، بدأت تبدي ملامح التململ والتراجع، مع انتهاء الأسبوع الأول من الحرب، فالمدة الزمنية التي جرى الحديث عنها بداية سرعان ما تبددت، على وقع صمود المقاومة، وتوجيه ضرباتها للعمق الإسرائيلي، وتكشف زيف التقارير العسكرية الإسرائيلية حول نتائج الحرب. فقد أكثر الجيش في الحديث عن ضرب آليات إطلاق القذائف في لبنان، ولكن "الوجبة" اليومية التي تتلقها إسرائيل، من 80 إلى 100 قذيفة يوميا، لم تتراجع، لا بل إن الأمر يتصاعد من حيث مدى هذه القذائف، كذلك فإن إسرائيل "زفت" للعالم ما تعتبره "بشرى" القضاء على قادة حزب الله وخاصة السيد حسن نصر الله، الذي ظهر في نفس اليوم على شاشة تلفزيون الجزيرة، وغيرها من التقارير. ولهذا فبعد أسبوع قرأنا "تحليلات" عسكرية وسياسية، غير تلك التي قرأناها في اليوم الأول فيكتب زئيف شيف: "مع انتهاء اليوم الثامن للحرب ضد حزب الله لا مفر من الاستنتاج بأن الحرب تتعقد.. ومن أسباب التعقيد المقترحات المتعاظمة من جهات مختلفة، من سياسيين يمينيين، وبالأساس من قادة سابقين في الجيش، ومن بينها الشروع بعملية برية واسعة في لبنان..". ويقول ألوف بن، مع انتهاء اليوم الثامن، "تراكمت عدة مؤشرات أولية تدل على أن الأجواء في الطاقم الوزاري المقلص بدأت تتغير، وان العملية اجتازت ذروتها". وهذه اللهجة تصاعدت مع انتهاء الأسبوع الثاني، وحتى قبل ظهور أنباء عملية بنت جبيل التي أسقطت تسعة جنود احتلال في كمين عسكري، ونشر عمير ربابورت، تقريرا نقل فيه الأجواء السائدة في قيادة الجيش الإسرائيلي، وتقييما لوضعية حزب الله وجاء في التقرير: "مرّ أسبوعان تقريبا منذ بدء الحرب، ورشقات الكاتيوشا التي واصلت السقوط، تدل إلى أي مدى حزب الله عنيد، ولو طلبت من ضباط في الجيش أن يصفوا شعورهم بصدق، لكان كثيرون منهم قالوا، إنها "صعبة صعبة". أما عملية بنت جبيل وما أسفر عنها، وارتفاع أعداد القتلى في إسرائيل، يوميا، من الجنود والمدنيين، فقد أخفت كليا، تقريبا، روح "الحماسة" للانطلاق إلى الحرب، فحتى أولئك الذين يحاولون الظهور في نفس موقفهم الأول، تظهر في مقالاتهم علامات التململ والتحفظات، و"التحذيرات"، ومن بينهم أليكس فيشمان، الذي بدأ يضيق ذرعا من غياب مسار سياسي ودعم أمريكي أعمى ويكتب فيشمان، "بعد مؤتمر روما باتوا في إسرائيل يشعرون أن العملية السياسية تسير في مسار وهمي، كلهم يتحدثون عن عملية سياسية، ولكن لا يوجد أي شخص يعرف ما الذي عليه أن يفعله، فإسرائيل تتلقى الضربات وحزب الله يتلقى الضربات، والجمهور يعاني، وهذا لا يقلق أي شخص في العالم، ولهذا فإن المستوى العسكري (الإسرائيلي) يوصي بضرب أهداف استراتيجية للحكم للبناني". وهذه اللهجة المعاتبة لدى فيشمان، لا تتلاءم إطلاقا مع حماسه الأولي للحرب. وبطبيعة الحال، فإن الجمهور الإسرائيلي، المستهلك الأساسي والوحيد للإعلام الإسرائيلي كان مشبعا "بروح وأجواء القتال"، فمن ذلك الذي يجرؤ على معارضة الحرب؟!، لقد كان ظهور شخص معارض للحرب في أيامها الأولى، على إحدى شاشات التلفزة، أو في الإذاعات المختلفة، خاصة من داخل الحلبة السياسية الصهيونية، شيئا من المغامرة، فهو "خائن"، ويريد "ضرب معنويات الجيش". لقد تبين منذ الأيام الأولى وجود تعليمات واضحة للمراسلين والصحفيين، خاصة ذوي التوجهات اليسارية، بأن لا ينشروا شيئا فيه ما يضر "الأجواء السائدة"، وأكثر من ذلك فقد شرعت كبرى الصحف الإسرائيلية تنشر نتائج استطلاعات مفبركة، تزعم أنها تمثل كافة الشرائح في إسرائيل، بما في ذلك الفلسطينيين في إسرائيل، وتدعي نسبا خيالية في دعم الحرب والجيش، مثل 82% و85% وحتى 91%، في حين أن العرب وحدهم يشكلون 18% من المواطنين في إسرائيل. ولعل المعلق الصحفي إيهود أشري في صحيفة "هآرتس" عبر عن الأجواء السائدة في داخل وسائل الإعلام في تعليقه على المواجهة التلفزيونية الكلامية العنيفة التي بادر إليها الصحفي المعروف موطي كيرشنباوم، مع النائب محمد بركة، رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وأيضا مواجهة أخرى مع الدكتور اليساري التقدمي إيلان بابي، وجاء في بداية التعليق: "في اليومين الأخيرين (بعد 12 يوما على الحرب) فتحت الاستوديوهات أبوابها أمام ابرز معارضي الحرب، وهناك مكان لمديح الاستعداد لسماع أصوات خارج الإجماع، لو كان فعلا بالإمكان سماعهم (في المقابلتين)، فالمشكلة تمثلت في عدم تحمل مقدمي البرامج سماع هذه الأصوات وفسح المجال لإجراء مقابلات موضوعية".
في الأيام الأولى اقتصرت المظاهرات في الشارع اليهودي على أعداد قليلة من نشيطي اليسار المناهض للصهيونية، ولكن بعد 10 أيام بدأت تتسع رقعة المتظاهرين، وكل المؤشرات تؤكد أن استمرار الحرب سيوسع حلقة المعارضين، أو لنقل، الذين سيجرأون على الظهور ضدها في قلب الشارع اليهودي في إسرائيل. إن كابوس حرب 1982 لم يغب عن أذهان الكثيرين، الذي فضلوا تجاهله في الساعات والأيام الأولى للحرب الجديدة، ولكنهم الآن بدأوا يشعرون أن التاريخ قد يعيد نفسه، ويؤكد لهم من جديد تبدد أوهام الغطرسة الإسرائيلية.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|