*اتساع ظاهرة الفقر، واتساع ظاهرة مطاعم الفقراء المعوزين فرضت نقاشا من نوع آخر في إسرائيل، حول تدمير دولة الرفاه بشكل منهجي *البروفيسور داني غوتوين: في إسرائيل اليوم هناك "امبراطورية مطاعم الفقراء المعوزين" التي يسيطر عليها أصحاب رأس المال *يغئال تساحوري: "العالم الثالث في إسرائيل يبعد عن تل أبيب 200 كيلومتر*
ما أن هدأت فوهات المدافع في الحرب على لبنان، وإعلان وقف إطلاق النار، حتى تكشفت أمام الرأي العام الإسرائيلي مدى اتساع الفجوات الاقتصادية في المجتمع الإسرائيلي، حين اضطرت الدولة إلى الاستعانة بجمعيات خيرية، وتبرعات كبار رأسمال، لسد الحاجيات الأساسية للشرائح الفقيرة والضعيفة، التي كانت أولى ضحايا الحرب على لبنان في إسرائيل، والتي لم يكن أمامها أي إمكانية للتنقل أو ضمان الاكتفاء الذاتي حين كان القسم الأكبر من شمال البلاد يعيش في حالة "حظر تجول" استمرت لأكثر من شهر.
ولعل ما صب الزيت على النار، هو أنه بعد أسبوعين من إعلان وقف إطلاق النار، صدر تقرير الفقر في إسرائيل، عن العام 2005، الذي دلّ على أن ظاهرة الفقر اتسعت أكثر، ولتعلن حكومة إيهود أولمرت، وكبار مسؤولي وزارة المالية، أنه على ضوء ضرورة تغطية تكاليف الحرب وخسائرها، فإنه سيكون من الصعب تطبيق مخططات تقليص ظاهرة الفقر في العام الحالي والعام القادم 2007.
إذا إتضح من التقرير أن ربع السكان في إسرائيل يعيشون دون خط الفقر، أي حوالي 1,630 مليون نسمة، في حين أن نسبة الفقر بين الأطفال تصل إلى 35%، وترتفع النسبة بين الأطفال العرب وحدهم إلى أكثر من 60%.
ويؤكد التقرير الدوري استفحال الفقر في إسرائيل، وارتفاعه من نسبة 24,1% في العام 2004 إلى 24,7%، وهذا على الرغم من أن البطالة في نفس العام انخفضت بنسبة 10%، لتهبط إلى مستوى 8,9%، وارتفاع النمو الاقتصادي بحوالي 5%.
ويعتبر خط الفقر في إسرائيل لكل فرد يتقاضى شهريا ما دون 424 دولارا، ويتراجع هذا المبلغ لأفراد العائلة، إذ يبلغ خط الفقر لعائلة من أربعة أفراد 1086 دولارا، أما معدل الناتج القومي للفرد في إسرائيل فيبلغ حوالي 17 ألف دولار سنويا.
وحسب معطيات التقرير فإن في إسرائيل 770 ألف طفل وفتى دون الثامنة عشر يعيشون دون خط الفقر، وهم يشكلون نسبة 35,2% من أبناء جيلهم، ولكن هذه النسب تختلف حين يجري عن أبناء الفلسطينيين في إسرائيل لوحدهم، فعلى الرغم من أن الفتيان والأطفال يشكلون نسبة 25% من مجمل الأطفال في إسرائيل، فإنهم يشكلون نصف الأطفال الفقراء، في إسرائيل، وما يعني أيضا أن 60% من الأطفال العرب في إسرائيل هم فقراء، وترتفع هذه النسبة إلى حوالي 80% حين يجري عن الأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون في صحراء النقب.
ويقول التقرير إن نسبة الفقر بين العائلات التي لديها من أربعة أولاد فما فوق ارتفعت من 54,7% في العام 2004 إلى 58,1% في العام الماضي 2005، نظرا لكون غالبية هذه العائلات هي عائلات عربية، أما لدى اليهود فإن العائلات كثيرة الأولاد هي بين أوساط المتدينين اليهود الأصوليين (الحريديم) وبين المستوطنين في الضفة الغربية.
وارتفعت وتيرة الفقر في إسرائيل بشكل خاص ابتداء من العام 2001 في ظل الأزمة الاقتصادية، التي بدأت تعصف بإسرائيل واستمرت حتى العام 2004 في أعقاب عدوان إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة.
الحرب والأعياد اليهودية
خلال فترة الحرب ظهرت الكثير من حملات "التبرع" لسكان الشمال، وهي بالأساس للمواطنين اليهود، الذين يشكلون أقل من نصف السكان هناك، "تنافست" على هذه الحملات، كبرى شركات الأغذية وشبكات التسوق، بالإضافة إلى كبار أصحاب رأس المال، حتى الذين تلفت حولهم شبهات الفساد والجرائم الاقتصادية، دون أن تبادر الحكومة من ميزانيتها لدعم الفقراء في تلك المنطقة.
وفي فترة الأعياد الحالية عند اليهود، اتسعت من جديد ظاهرة مطاعم الفقراء المعوزين، والجمعيات التي توزع الرزم الغذائية على الفراء، وتقول تقارير أولية، إن عدد اللذين احتاجوا هذا العام لمعونات غذائية مباشرة، فاق 800 ألف نسمة، في حين أن عددهم كان في العام الماضي في حدود 600 ألف نسمة.
وقد أعلنت هذه الجمعيات بداية عدم قدرتها على تغطية الطلب، نظرا لكونها استهلكت مخزونها خلال الحرب، ليظهر من جديد دور كبار أصحاب رأس المال في إسرائيل، الذين تبرعوا لهذه الجمعيات، وهذا ما أثار نقاشا واسعا في إسرائيل، حول الحكم الذي لم يعد في استطاعته ـأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين، خاصة الفقراء منهم.
ووصل النقاش إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومن بين ما نشر مقالين، الأول للبروفيسور داني غوتوين، من جامعة حيفا، الذي رأى أن ما جرى في إسرائيل هو انعكاس مباشر لتدمير دولة الرفاه، واستفحال سياسة الخصخصة، أما يغئال تساحوري، مدير المركز "الفكري التربوي" في كلية بيت بيرل، فإنه تحدث عن "عالم ثالث" على بعد 200 كيلومتر من منطقة تل أبيب.
تساحوري: "عالم ثالث" في الشمال
ويقول يغئال تساحوري، "مئتا كيلومتر تفصل مدينة رعنانا (المحاذية لتل أبيب)، عن بلدات الشمال، وهذه المسافة في كثير من الأحيان تفصل العالم الأول عن العالم الثالث، إن "العالم الثالث" هذا لم يظهر لأول مرة في حرب لبنان الثانية، ولكنه أثبت أن الفجوات الاجتماعية، هي مشكلة استراتيجية، ومسألة وجود، ليس فقط لمن يعيشون في أحد جانبي الفجوة، وإنما أيضا لمن يعيش في الطرف الآخر لهذه الفجوة، الطرف المريح والدافئ، فمتى آخر مرّة جرى بحث في هذه المسألة، وهل سكان كريات شمونة، هم كنز أم عبء استراتيجي؟".
ويتابع تساحوري، "من طبيعة الحرب أن تدفع بالقضايا السياسية والأمنية إلى الأمام، وتضع جانبا القضايا الاجتماعية، لتضعها في هامش سلم الأولويات، والحرب الأخيرة كشفت العلاقة المباشرة والجوهرية بين المقاتلين في ميدان الحرب، وبين المواطنين في الجبهة الداخلية، الذين اقتربت الحرب إليهم كثيرا، وحتى أنها وصلت إلى باب بيتهم".
ويضيف تساحوري: "إن الحرب الحالية أكدت العلاقة بين الذراعين العسكري والمدني، وهما قوتان متأثرتان بشكل مباشر من الحرب ونتائجها، ومن هنا فإن استنتاجات الحرب توجب تقديم جواب مستوي من حيث القيمة للقوة المحاربة، ولقدرة الجبهة المدنية على الصمود".
ويول تساحوري، "إن خمس مركبات مركزية لدعم الريف: العمل والتعليم والتربية والبنى التحتية والإسكان والثقافة وملء أوقات الفراغ، وكل الحكومات التزمت بتطوير هذه المركبات في الريف، إن كان في الوسط اليهودي، أم في الوسط العربي، إلا أن حرب لبنان، أطلقت النار في وجوهنا، وذكرتنا بأننا أـهملنا هذه المناطق التي تشكل حامية للبلاد".
ومن أجل إصلاح الوضع القائم فإننا لسنا بحاجة إلى لجان تحقيق، وإنما لذراع تنفيذي قوي، ينفذ استراتيجية جديدة، ويعكس الاحتياجات الأساسية لدولة إسرائيل التي تخوض صراع بقاء، إن الخطر الأكبر الكامن لنا الآن، في حلكة القتال، هو الأوضاع المهملة لسكان الشمال، وأن نواصل إهمال سكان الشمال، الجبهة الداخلية لشمال البلاد... إن هذا وقت العمل، وليس "قريبا"، أو "في الفرصة القريبة"، أو "حين يتسنى".
غوتوين: امبراطورية مطاعم الفقراء المعوزين
ويقول البروفيسور داني غوتوين، المختص بتاريخ إسرائيل في جامعة حيفا، في مقال له، نشره في موقع "واينت" التابع لصحيفة "يديعوت أحرنوت"، "في هذا العام تحولت مطاعم الفقراء المعوزين إلى رمز إسرائيل المخصخصة، هذه المطاعم، وبشكلها التقليدي، وأيضا بشكلها الحالي، كمنظمات المجتمع المدني، و"كقطاع العالم الثالث"، كثرت سوية مع تزايد الفجوات الاقتصادية واتساع ظاهرة الفقر، وخلافا للانطباع العام فليس الفقر هو الذي أنشأ مطاعم الفقراء المعوزين، وإنما هي من بين مسببات اتساع الفقر".
ويتابع غوتوين، "إن مطاعم الفقراء المعوزين، باتت الأجهزة المستخدمة في تفكيك دولة الرفاه ونقل السلطة من الدولة من راس المال، وهي الساحة الخلفية "لاقتصاد السوق"، والجانب المظلم "للتنافس الحر"، إن مطاعم الفقراء المعوزين، هي المصير الذي يضعه نظام الخصخصة لضحاياه، وهي وصمة عار على جبين الدول، التي تحكم على أكثر فأكثر من مواطنيها بالتعلق المهين بالآخرين، وتحولهم إلى تابعين لنظام الحكم الأقلية الإسرائيلي".
ويقول غوتوين في مقاله، "وفي صلب مطاعم الفقراء المعوزين نجد الرحمة، إلا أن وهم الرحمة هو حاجز دخاني توسع امبرطورية مطاعم الفقراء المعوزين احتلالها، إن رحمة مطاعم الفقراء المعوزين هي الهبة التي يقدمها رأس المال مقابل تحويله (رأسمال) إلى حارس أملاك الدولة المفلسة، والرحمة هي ورقة التين للديناصور الاجتماعي، وليفترس القوي الضعيف، وتتستر على سياسة الخصخصة، التي نتائجها أعطت مصداقية لنظرية بيوت العناكب التي أطلقها (حسن) نصر الله".
ويضيف غوتوين، "يتضح انه خلافا لصورة الرأفة ومساعدة المعوزين، فإن مطاعم الفقراء المعوزين هي جزء من استراتيجية تفكيك دولة الرفاه، وخصخصة خدماتها، وحتى ادعاء الناطقين باسم مطاعم الفقراء المعوزين بأنهم يملأون الفراغ الذي تركته الدولة، فهي في أفضل الأحوال تضليل، فهي كما تدعي أنها تملأ الفراغ فإنه تُحدثه من جديد، فهي أساس دائرة الخصخصة السيئة، وهي وسيلة لإعفاء الدولة من مسؤوليتها وذريعة لنقل مسؤولياتها لأيدي أصحاب راس المال، فمطاعم الفقراء المعوزين، هي أيضا إحدى وسائل التي تربط رأس المال بالحكم..".
ويختتم غوتوين مقاله كاتبا، "إن وسيلة الكفاح ضد سياسة الخصخصة والتحرر من ظاهرة مطاعم الفقراء المعوزين، هي بناء نظام حكم مبني على التضامن الاجتماعي، وعدالة في توزيع الموارد، في مركزها اتساع دولة الرفاه، التي ترى بضمان الاحتياجات الأساسية للمواطن، مهما كان هدفا أساسيا لها، ولا تترك المواطن لرحمات متبرعين من أصحاب رأس المال، والخطوة الأولى لهذا هو تعيين وزير رفاه، ولا يكون وزيرا للمخصصات الاجتماعية، وإنما يبني دولة الرفاه، وهذا يعني مكافحة امبراطورية مطاعم الفقراء المعوزين، لتزول ويتم استبدالها بالدولة وخدماتها".