عناق الدببة والمجازر الإسرائيليةالجمعة 10/11/2006 برهوم جرايسي- "الغد"- الاردنية
لم تر إسرائيل الرسمية في المجزرة التي ارتكبتها قواتها، فجر يوم الأربعاء الأخير، أكثر من "مجرد خطأ"، ارتكبه "أكثر جيش في العالم يحافظ على طهارة السلاح إطلاقا"، حسب ما يردده قادة إسرائيل، السياسيون والعسكريون، على حد سواء، ومثل هذه المزاعم تظهر بالذات عند وقوع أبشع الجرائم ضد الإنسانية، التي لا تتوقف القوات الإسرائيلية عن ارتكابها. وإسرائيل تعتبر مثل هذه المجازر "حدثا شاذا"، ولكن "الشاذ" في قاموس الاحتلال الإسرائيلي تحول إلى نهج دائم، ولنقل انه تحول إلى قاعدة في التوجيهات والتنفيذ. ولكن من الضروري الاعتراف، وبالذات الآن، أن الجيش الإسرائيلي هو من أكثر الجيوش تطورا في العالم، استنادا للتقارير الإسرائيلية التي تظهر تباعا، لا بل أن إسرائيل تعتبر من أكبر مصدري المعدات العسكرية التقنية التي وظيفتها الدقة في تحديد الهدف، ومن ضمن هذه المعدات، أيضا المدفعية الإسرائيلية. ونقول هذا لنشير إلى أن مزاعم "الخطأ" في المجزرة الإسرائيلية لا يمكن ان تكون إطلاقا، فأول التقارير الإسرائيلي ادعى ان المدفعية "أخطأت" بنحو ألف متر من "هدفها"، وهي مسافة بعيدة جدا وتتناقض كليا مع دقة الأجهزة الإسرائيلية، وهذا الاستنتاج يدعم فكرة ان إسرائيل خططت مسبقا لمثل هذا التصعيد، الذي تحتاجه في هذه المرحلة بالذات. وهذا لأن إسرائيل بدأت تشعر بمبادرات دولية قد تحاصرها سياسيا وتدفعها نحو طاولة المفاوضات مجددا، وهذا ما ترفضه إسرائيل في هذه المرحلة، فالتخوف الإسرائيلي حاصل أيضاً بسبب التطورات السياسية في الولايات المتحدة، وبالتالي مصير دعمها الأمريكي المطلق، وهي لا تزال تعتقد ان نتائج الانتخابات الأمريكية ستدفع بالرئيس الأمريكي جورج بوش يبحث عن أجندة أساسية جديدة في الشرق الأوسط. وقد يجد أولمرت الخطوط العريضة لهذه الأجندة خلال المحادثات بينه وبين بوش خلال لقائهما التوقع في الأسبوع القادم في البيت الأبيض. ولهذا فإنها ترى ان أسرع وسيلة لأبعادها عن حلبة المفاوضات هو التصعيد الأمني، وهي تعلم أن "الخطأ" (المجزرة) الذي ارتكبته لن يبقى من دون رد فلسطيني، يليه ردا إسرائيليا، ثم انفجار نعلم متى يبدأ ولن نعلم متى وكيف سينتهي. كذلك فإن إسرائيل تسعى لتحقيق هدفها من خلال عدم استقرار الساحة السياسية الفلسطينية، ولتدعي انه ليس لديها قيادة بالإمكان التفاوض معها، تمشيا مع عبارة: "لا يوجد شريك فلسطيني"، ولكن إسرائيل تعلم ان العالم يطالبها بالتفاوض مع الرئيس محمود عباس، (أبو مازن)، خاصة وان إسرائيل تعتبره "معتدلا". ومما لا شك فيه ان إسرائيل تعتبر أبو مازن منذ زمن "ورطة"، فهي التي روّجت في العالم، ومنذ فترة رئاسة الرئيس الراحل ياسر عرفات، ان أبو مازن "هو الشخص المناسب للمفاوضات"، أو "أنه الشخص الأكثر اعتدالا"، و"ان عرفات يصد أبو مازن"، وليس سرا أن هذا الترويج الإسرائيلي جعل أبو مازن، ولدى بعض الأوساط الفلسطينية والعربية في خانة "المشبوه"، رغم قساوة الوصف. وإسرائيل تعرف هذا الأمر جيدا، ومن منطلق معرفتها لأدق التفاصيل في الساحة الفلسطينية بكل تعقيداتها، فهي تعرف ان إطرائها لأي شخصية فلسطينية، سيجعلها تحت علامة استفهام أمام الجمهور، وأكثر من مرّة أشار إلى مثل هذا الأمر الخبير الإسرائيلي بالشؤون الفلسطينية، داني روبنشتاين، في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. فإسرائيل التي تطري في حديثها عن الرئيس أبو مازن، لم تقدم له أي شيء، لا بل أنها لم تفاوضه إطلاقا، فيوم غد السبت تحل الذكرى الثانية لرحيل الرئيس ياسر عرفات، وعمليا بدء تولي الرئيس أبو مازن مهامه الفعلية، بداية من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، المفاوض الأساسي لإسرائيل، ومن ثم رئاسة السلطة الفلسطينية. وخلال هذين العامين، فإن إسرائيل لم تدع أبو مازن إلى طاولة المفاوضات ولم تبد أية بادرة للانفراج، وإن كانت إسرائيل تتذرع برئاسة حركة حماس للحكومة الفلسطينية، فإن حماس تولت رئاسة الحكومة منذ ثمانية أشهر فقط، أي أن إسرائيل تجاهلت وجود الرئيس أبو مازن لفترة 16 شهرا قبل وصول حماس للرئاسة، ناهيك عن أنها حاصرت مفاوضها الأول الرئيس عرفات على مدى ثلاث سنوات، وعزلته في مقره حتى رحيله، وعلى الأغلب حتى أن اغتالته بشكل بطيء. والهدف الإسرائيلي، إن كان مع أبو مازن، أو مع أبو عمار من قبله، هو إحداث شرخ بين كل واحد منهما وبين القاعدة الشعبية، لتوهم العالم بعدم وجود قيادة فلسطينية مدعومة شعبيا. فبالنسبة لابو مازن، فهي تمارس "عناق الدببة" الخانق، وللأسف هناك من الأوساط الفلسطينية من "يشتري" هذا العناق من اجل التحريض وتحقيق المكاسب الأساسية على تربة أوجدها الاحتلال الإسرائيلي. أما بالنسبة للرئيس عرفات، فإن الوسيلة كانت مختلفة تماما، فللعالم قالت انه يدعم ما تصفه حكومة الاحتلال بـ "الارهاب"، وفي المقابل فإنها أكثر من روجت "للفساد المالي" للرئيس عرفات، ووسائل إعلامها كانت أول من تروج لأرقام "ثروة" عرفات، وكانت تتحدث عن مليارات الدولارات، واليوم بعد رحيله بعامين، لا يجري أي حديث عن مصير هذه "الثروة" المزعومة، لأن الهدف منها كان واحدا، وهو زعزعة ثقة الجمهور بالشخصية القيادية الأولى للشعب الفلسطيني، وعمليا سحب شرعيته القيادية. قد يربى البعض بما جاء كمعادلة معقدة، ولكن لهذا الأمر ما يعززه، وهو ان كل ما تروج له إسرائيل من أوهام ليس له أي رصيد على ارض الواقع، فهي لم تقدم شيئا للشخصية المرغوبة، كما ان تلك الشخصية التي وصمها بعض "ذوي القربي" بالشبهة، لم تقدم أي تنازل. إن فهم الأجندة الإسرائيلية بتفاصيلها الدقيقة هو ضرورة هامة لقراءة المستقبل وتحديد وجهة التعامل معه، وفي المقابل فإن الاقتناع بالأوهام الإسرائيلية والترويج لها هو خدمة مباشرة للأهداف الإسرائيلية. هناك حاجة لتماسك الساحة الفلسطينية، وهو أمر عولج مؤخرا عدة مرات هنا، وحملات التشكيك المتبادلة هي وصفة ناجعة لتفكك الساحة الفلسطينية وتعزيز الاحتراب الداخلي الذي يخدم جهة واحدة ووحيدة: الاحتلال الإسرائيلي.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|