خيراً فعلت إسرائيل حين أطلقت على ما يعرف عالميا بوزارة "العدل"، اسم وزارة القضاء، ولربما هذا نابع عن إصرار ان جهازها القضائي لم يولد من أجل العدل، بل "حماية" للفكر الصهيوني وسياسته، تماما كما أطلقت إسرائيل اسم وزارة "الأمن" على ما يعرف عالميا بوزارة "الدفاع"، لأن إسرائيل تعرف جيدا أن جيشها لا يدافع عن أي شبر من الحدود التي اعترف لها العالم بها، بل إن الجيش الإسرائيلي ينتشر على حدود محتلة من كافة الجهات.
في الأسبوع المنتهي أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية، برئاسة رئيسها المتقاعد حديثا، أهارون براك، ثلاثة قرارات تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، أولها يتعلق بحق الفلسطينيين بالتقدم بدعاوى قضائية أمام المحاكم الإسرائيلية، لطلب تعويضات عن أضرار تكبدوها، إما جسدية أو مادية جراء عمليات قوات الاحتلال.
وقد أقرت المحكمة جزئيا بهذا الحق للفلسطينيين، حين قالت إن لكل فلسطيني مثل هذا الحق، شرط ان تكون إصابته أو أضراره قد وقعت في فترة اللا حرب، وهناك من سارع ليحتفي بهذا القرار ويغني لديمقراطية إسرائيل، رغم ان القرار في طياته لا يحمل أية "بشرى" إلا لعدد قليل جدا من الفلسطينيين، لأن إعلان الحرب واللا حرب يبقى بيد الاحتلال، الذي يعلن عادة انه في حالة حرب دائمة أمام الفلسطينيين.
أما القرار الثاني فإنه يتعلق بجدار الفصل العنصري في قلب مدينة القدس، إذ لم تكتف المحكمة العليا الإسرائيلية بزعم ان الجدار "قانوني"، بل راح رئيس المحكمة براك، ليقول ان أمن الإسرائيليين أهم بكثير من حقوق الفلسطينيين، بعبارة لا لبس فيها، بل واضحة ومباشرة.
ويتعلق القرار الثالث بجرائم الاغتيالات، فأيضا بهيئة قضاة يرأسها براك نفسه، "قررت" المحكمة أن هذه الاغتيالات "قانونية"، وأن هناك "حقا" لإسرائيل باستخدامها، "حماية لأمن مواطنيها".
هذا التسارع في صدور القرارات هو حالة نادرة، فالملفات الثلاثة مطروحة أمام المحكمة العليا الإسرائيلية بمبادرة جمعيات حقوقية إسرائيلية، بالأساس، إلى جانب أفراد أو جهات فلسطينية منذ عدة سنوات، ولكن القاضي براك من المفترض ان ينهي عمله في الأيام المقبلة، ولهذا فإنه ينهي جميع الملفات التي بين يديه قبل خروجه الكلي للتقاعد.
لا يمكن الحديث عن أي جهاز قضائي في العالم بمعزل عن الدولة التي يعمل فيها، ومثل هذا الجهاز في إسرائيل محكوم ليس فقط للقوانين التي يسنها المشرّع الإسرائيلي، بل بالأساس للعقلية التي تحكم المشرّع نفسه، والمؤسسة الحاكمة، عقلية الاحتلال والحرب، عقلية استعلائية عنصرية، عمودها الفقري الفكر الصهيوني المبني على استعلائية مصالح اليهود على جميع المصالح في العالم.
وتكثر إسرائيل في استعمال مصطلح "قانون" و"قانوني"، في كل ما يتعلق باحتلالها وجرائم قواتها العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى بتنا أمام قاموس إسرائيلي لن تجد له مثيلا في العالم، مثل أن تسمع ان في الضفة الغربية وهضبة الجولان هناك "مستوطنات قانونية"، مستوطنات قائمة على أرض الغير، يرفضها القانون الدولي والمنطق البشري والإنساني.
وتستمد إسرائيل "قانونية" هذه المستوطنات من أنها أقيمت بقرار من الحكومة الإسرائيلية المعتدية التي تمارس الاحتلال.
ولكي تكمل إسرائيل المعادلة، فإنها تعلن جهارة ان هناك مستوطنات غير قانونية، وتقصد بها البؤر الاستيطانية التي أقامتها عصابات المستوطنات من دون قرار حكومي، رغم ان تقريرا إسرائيليا رسميا كشف عن أن جميع هذه البؤر أقيمت بدعم مالي ولوجستي من الحكومات الإسرائيلية بما فيها الأخيرة.
ولكن في عصر كهذا فإن إسرائيل تنجح في فرض قاموسها، ليصبح الشغل الشاغل للأسرة الدولية بالبؤر الاستيطانية "غير القانونية"، مقابل صمت مطبق على المستوطنات الضخمة. وهذا يسري أيضا على جرائم الاحتلال ومجازره، فالقتل له قانون، وإسرائيل تغتال وتذبح الناس وهم نياما في بيت حانون "وفق القانون"، ويقول براك وهو يغادر المحكمة كاشفا عن وجهه الصهيوني العنصري القبيح المقيت، "إن القانون الدولي لا يسري على مثل هؤلاء"، أي الفلسطينيين الذين تغتالهم إسرائيل، بزعم إنهم يمارسون "الارهاب".
وكذا الأمر بالنسبة لجدار الفصل العنصري، فهذا الجدار ومهما كتب عنه وتم تصويره وعرضت الأفلام حوله، فإنه لا يمكن ان يعكس صورته الحقيقية المأساوية، فجدار كهذا يمر في كثير من الأحيان بين بيتين متجاورين، لربما لشقيقين، لتتحول المسافة بينهما من متر واحد إلى كيلومترات.
هذا الجدار دمّر حياة مئات آلاف الفلسطينيين، الذين خسروا أراضيهم ومصادر رزقهم، وقيمة بيوتهم، خاصة حينما نتحدث عن الجدار في داخل أحياء القدس العربية، فهذه جريمة لا مثيل لها في التاريخ، ويتسرّع البعض حين يشبّه هذا الجدار بجدار برلين الزائل، أو بجدران الغيتوات، فهذا الجدار نموذج وحيد من نوعه في العالم، بتفاصيله الكبيرة والصغيرة، لأن إسرائيل لم تكن في أي يوم بحاجة لنسخ جرائم ضد الإنسانية، بل هي مبتكرة للجرائم، وإذا ما هناك أنظمة عنصرية قائمة في العالم، فمما لا شك فيه ان هذه الأنظمة ستحتاج لنسخ كتاب القوانين الإسرائيلي وممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
على هذه الأرضية تأتي قرارات المحكمة الإسرائيلية، الصادرة عن هيئة قضاتها الموسعة، ولهذا يجب عدم الاستغراب من نوعية هذه القرارات، فالجهاز القضائي الإسرائيلي موبوء بالعنصرية الحاقدة، وهذا ليس كلاما في الهواء بل يؤكده بحث جامعي، أجري في جامعة حيفا الإسرائيلية، وأجراه باحث إسرائيلي كبير، أكد في معطياته على ان القضاة الإسرائيليين يطلقون أحكاما مضاعفة على فلسطينيي 48 مقارنة بنفس الجنح إذا ما ارتكبها يهود، ومنذ ان صدر هذا البحث قبل عامين، فإن شيئا لم يتغير سوى أنه ازداد سوءا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل الحالة، هو الداعي للتوجه إلى جهاز القضاء الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالاحتلال منذ العام 1967، فمجرد التوجه لهذا الجهاز هو اعتراف ضمني، ولربما غير مقصود، "بشرعية" جهاز المؤسسة في المناطق المحتلة. في الغالب فإن من يقدم الالتماسات هي جمعيات حقوقية إسرائيلية، ولكن من بينها جمعيات عربية، ومثل هذه القرارات يجب ان تشعل الضوء الأحمر، لتوقف عملية "الحجيج" إلى الجهاز القضائي الإسرائيلي.
مواجهة الاحتلال يجب ان تعتمد على أنه ليس شرعيا من أساسه، فكيف من الممكن التأكيد على عدم شرعية الاحتلال، ومن جهة أخرى التوجه إلى مؤسساته "القضائية" بحثا عن عدل مفقود في قوانينه وفي أخلاقياته.