قبضايات في غزة
الجمعة 18/5/2007 برهوم جرايسي- "الغد"- الاردنية
من يتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، يجد نفسه وكأنه يستمع إلى تقارير مباراة كرة قدم نسي فيها الحكم التوقيت، بينما اللاعبون غرقوا في حماستهم، كيف لا وهم يركلون بشدة برؤوس أبناء شعبهم، ويتبردون بدمائهم. هذه هي أجواء التقارير الإسرائيلية حول المذابح "الفلسطينية الفلسطينية" الدائرة في غزة، ومهما جاهد مراسلو ومحللو إسرائيل فلا يمكنهم ان يتستروا على لهجة الشماتة، لا بل الفرح، وهم لا يجاهدون كثيرا في التستر على ذلك. وهذا كله "بفضل" قبضايات غزة، الذين يحملون السلاح ويتمرجلون في شوارع القطاع، إنهم "المقاومون الجدد"، إنهم "حماة وطن" في الرمق الأخير، ليس في رؤوسهم سوى الدم، يتنكرون لبطولات شعبهم وتاريخه النضالي، لأن التاريخ يبدأ بهم وينتهي عندهم، وأثبتوا أنهم أقوى من الجيش الخامس في العالم في قضية واحدة، بأنهم أسرع بذبح من تطاردهم إسرائيل، وأنهم أسرع في اقتحام بيوت ومعاقل تحلم إسرائيل في تدميرها. نتمنى في هذه الأيام ان تبتلعنا الأرض ونحن نستمع إلى تقارير الشماتة الإسرائيلية، ونحن نقرأ تقرير جهاز الاستخبارات العامة الإسرائيلية، "الشاباك"، الذي يدعو حكومته، بحرارة شديدة، إلى عدم شن عدوان شامل على قطاع غزة، "لأن هذا يُعتبر تدخلا في الاقتتال الداخلي"، وفي مكان آخر يقول: "لأن الفلسطينيين سيتوقفون عن اقتتالهم ويوجهون سلاحهم نحونا"، وبمعنى آخر، لم يكتبوه ولم يقولوه: فإن الفلسطينيين بأنفسهم ينفذون مهماتنا. حين تطلق خلايا فلسطينية قذيفة واحدة على أي موقع إسرائيل، نسمع عادة الكثير من الأصوات تدعو إلى اجتياح قطاع غزة عن بكرة أبيه، وقد تشن إسرائيل هجوما معينا، ولربما قبل وصول هذه الكلمات إلى صفحات الجريدة، ولكن في هذه الأيام فإن هذه الدعوات أخف حدة، وتصدر صوتا خافتا جدا، لأنهم هم "القبضايات"، يقومون "بالواجب". تخيلوا لو أن جيش الاحتلال قتل في هذه الأيام 17 فلسطينيا في يوم واحد، وخلال ثلاثة أيام 38 فلسطينيا، وقد فعل مثل هذا وأكثر في الماضي، أما كنا سنصرخ: إنها مجزرة مجزرة، وستنطلق المظاهرات من كل حدب وصوب، نذهب إلى ساحات أوروبا نرفع علما فلسطينيا، ونطرق أبواب مجلس الأمن، ونصرخ في وجه الجامعة العربية، ونشتم هاتين الهيئتين لعجزهما عن وقف العدوان، لا بل نشتم الدول العربية كلها التي لم تفعل شيئا، ونسمع تلك المرأة الفلسطينية المسكينة تصرخ من على شاشات الفضائيات، "وينكو يا عرب". لكن قبضايات غزة أخرسونا خجلا وقرفا، "فنحن" القتلة، ونحن الضحية، ونجد من بيننا من يصب لوم الاقتتال على الاحتلال البغيض، هربا من حقيقة داخلية مٌرّة، فجرائم الاحتلال لم تتوقف للحظة منذ 40 عاما، وعلى مدى عشرات السنوات لم نشهد مثل هذا الانفجار الداخلي، إلا في عصر "المقاومين الجدد". وهناك نفر منهم في القطاع الجريح من لم يكتف بهذه المجزرة، من صناعة محلية، وهو يريد استدراج إسرائيل بجيشها لاحتلال قطاع غزة، وقد صدرت بيانات مع القذائف الفلسطينية، تدعو عمليا إسرائيل لاقتحام عزة، ولربما أنهم بحاجة إلى من يساعدهم على إتمام المهمة: القضاء على ما تبقى من مؤسسات وطنية، والقضاء على أي أمل لأي مؤسسة أن تحيا من جديد، فهذه مؤسسات متواضعة، أحجار صغيرة لبناء كيان قادم. وقد أثبتت كل أفعالهم أنهم ليسوا معنيين بأي كيان حقيقي قادر على الحياة، وصنع الحياة لشعب يئن منذ عشرات السنين تحت وطأة الاحتلال، إنهم معنيون بكيان لا يختلف عن مشاهد الرعب التي نرى بعضها في غزة من خلف شاشات تلفزيونية زجاجية، تضطر بعد كل مشاهدة أن ننظفها أو نجففها من جديد.
لماذا نخجل من قول الحقيقة، هل لأن جهات معينة لا تكف عن استصدار شهادات الوطنية، وصكوك الغفران، لماذا لا نجاهر بحقيقة ان كل مقاومة تشهر سلاحها في وجه شعبها هي مقاومة دنسة مقيتة. هناك من يجلس في صالونات عاجية في ناطحات سحاب، وآخرون يجلسون في سراديب معتمة عميقا تحت الأرض، والمشترك بينهم كثير، ومنه أنهم جميعا ليسوا مع السواد الأعظم من الشعب، تحت ضوء الشمس، وعلى الأرض، يرفضون الحقيقة، لا بل يتجاهلونها، لأنها تفضح نواياهم وأجنداتهم الغريبة عن مصالح الشعب الفلسطيني. أولئك يقبضون ثمنا على كل كلمة ينطقون بها، والشعب يدفع دمه ثمنا، أنهم يزاودون على شعب بأكمله، أراد الحياة ككل البشر، أرض ووطن ودولة تضمن له تحديات الحياة والمستقبل وتربية الأجيال. حين تدخل جحافل جيش الاحتلال الإسرائيلي فإنها لا تستهدف "قبضايات غزة" وحدهم، هذا إذا وجدتهم أمامها، بل تضرب كل حدب وصوب، تضرب انتقاما، ولتدمر أكثر ما يمكن، لتغرق شعبا، تعتبره تهديدا استراتيجيا، في ويلات تبعده عن تحقيق حق مشروع، ترفضه إسرائيل. نيران إسرائيل لا تقتصر على القبضايات، بل بشكل خاص على الجمهور العام، على الشعب، فمن ناحية إسرائيل، فإن هذا الشعب هو السلاح الأخطر عليها، هو الذي قهرها بحجارته على مدى سنوات، إلى أن أسكته "المقاومون الجدد"، وبرصاص مأجور وبخردوات معدنية محشوة بمواد متفجرة، يقال إنها "قذائف". لا يعنينا كثيرا على ماذا تتقاتلون، يا أيها القبضايات، فتبربحوا في شوارع غزة، اقتلوا واقتلوا واذبحوا، واثبتوا أنكم قبضايات، قبل أن يدخل أول جندي احتلال، لنرى الشوارع التي تحتلونها اليوم تصبح في تلك اللحظة شوارع أشباح، نبحث عنكم وعن أسلحتكم، لنجدكم تختبئون وراء أول تنكة، وقل أول مستنقع نتن، فالمهم ان تنجوا يا قبضايات غزة بجلدكم، لأن ثأركم من أبناء جلدتكم لم يتم بعد، فالاحتلال زائل بجنوده: "ولننتظر حتى يرحل، ونواصل مسيرة الدم". كم هي أصول الكتابة خانقة أحيانا، خاصة حين تمنعك من اللجوء إلى مثل عربي شعبي ينتشر من المحيط إلى الخليج، يقول مطلعه: "السلاح بإيد....". فأنتم يا قبضايات المرحلة، فوقكم غضب وتحتكم غضب، انقلعوا عنا، انتم لستم منا إلى يوم أن تطفئ الشمس آخر لهيب فيها.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|