إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



بين مجزرة العدو ومجزرتنا بذاتنا

السبت 3/1/2009
برهوم جرايسي- "الغد"- الاردنية

يحتاج المرء لكثير من الجهد حتى يمنع دمعة تفر من عينه أمام مشاهد المجازر الإرهابية الجارية في قطاع غزة، خاصة إذا كان أطفاله من حوله، رغم أن الدموع ليست مؤشر ضعف، فهذه حالة إنسانية، أمام بهيمية بني صهيون غير المفاجئة.
منذ اللحظات الأولى التي بدأت تنتشر فيها مجازر الارهاب الإسرائيلي وما تبعها من مواقف، كان دمع وغضب عادي وغضب فوق العادة، فالغضب العادي على العدو، الذي ممنوع علينا أن نتفاجأ بمستوى إجراميته، فالإرهاب الإسرائيلي لم يصل بعد ذروته، هذا أصلا إذا حدد لنفسه ذروة.
أما الغضب فوق العادة، فهو موجه لذاتنا، لأبناء جلدتنا، وبشكل أدق لبعض قليل منا، الذين لم يستوعبوا الحدث، بل اعتبروه فرصه لتصفية الحسابات الحزبية الفئوية والسياسية الداخلية، هؤلاء، وهم قلة في قطبين على الساحة الفلسطينية وجوقات تلتف حول كل واحد منهما، راحوا يجرون حساباتهم حول كيف بالإمكان يستثمرون هذا النزيف الفلسطيني لتحقيق مكاسب سياسية، فذاك يخوّن وآخر يلوّم، بينما الآلاف تجر مئات الجثمانين، والجرحى.
ثم تنتشر الحلقة، ليصبح اللوم والتخوين ظاهرة عربية عامة، تساندها وتقودها وسائل إعلام كبرى، حتى بات المشهد الإعلامي وما أفرزه من حالة شعبية يفرض السؤال: من المجرم الحقيقي هنا؟ نسينا المجرم الأساسي إسرائيل بساستها وعسكرها، ورحنا نبحث عن انتقام الضعفاء، نجلد ذاتنا، "ندق ببعضنا"، حسب المقولة الشعبية.
ويزداد الغضب حينما نتحول إلى الإعلام الإسرائيلي الذي تضاعفت فيه مشاهد البهجة والسرور، ليس فقط بسبب شلال الدم الفلسطيني الذي يثلج صدورهم، بل أيضا بسبب مشاهد الغضب في الشارع العربي، الذي بات موجها إلى داخل الساحة العربية أكثر منه ضد إسرائيل.
ويظهر محللو الشؤون العربية في قنوات التلفزة الإسرائيلية، وعلامات الارتياح بانت على وجوههم، دون استثناء، وهم يشرحون عن الحالة العربية، وهذا الارتياح ليس نابعا من شماتة، فالشماتة لعبة الناس البسطاء، وإنما لأن المخطط الإسرائيلي في حربه النفسية، التي سبقت ورافقت الحرب الإرهابية الجديدة، قد حقق أهدافه، فعلى أرض غزة نحصي مئات الشهداء، بينما الحرب النفسية طالت الملايين في العالم العربي، وانطلت عليهم روايات نسجتها أولا إسرائيل، وسوقتها عبر وسائل إعلامها لتشتريها وسائل إعلام عالمية أخرى، "فترديد الكذبة يحولها إلى حقيقة".
قبل نحو أسبوعين صدرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بعنوان صارخ احتل صفحتها الأولى يقول: "حكومات عربية طلبت من إسرائيل اغتيال قادة حماس"، وعلى هذا التقرير توقيع لصحفي إسرائيلي حاقد في عنصريته ونجاسته، يدعى بن كسبيت، إلى درجة أن الشارع الإسرائيلي لا يشتري الغالبية الساحقة مما يكتب وينسج.
وبعد يومين فقط، تظهر شخصية من أحد الفصائل الفلسطينية في بيروت، لتقول عبر إحدى القنوات: "لقد وصلتنا معلومات تفيد بأن حكومات عربية طلبت من إسرائيل اغتيال قادة حماس"، دون أن ترمش له عيش، هكذا، أوقع نفسه راضيا مرضيا في شرك إسرائيلي، عرفنا نتائجه لاحقا، إذ أن معلوماته استقاها من "معاريف" الإسرائيلية، لا أكثر ولا أقل، دون أن يكشف عن هذا، لكي يوهم المشاهد أنه مصادره "موثوقة"، ويحاول يقنع بما يدعي.
إسرائيل تدرك هشاشة الوضع الداخلي في الساحة العربية، وتدرك أيضا أن تأجيج الاحتراب الداخلي في الشارع العربي بات مهمة سهلة، تلهي الرأي العام عنها، كمجرم أساسي، والمأساة الكبرى أن السواد الأعظم من ملايين شعوبنا لا تعرف هذا، فهناك من يروج هذه الحرب النفسية، بادراك أو من غير إدراك.
وهناك من يدركها، ولكنه يتلذذ في تسويقها طالما أنها تحقق له مكاسب سياسية وتفرض أجندته الضيقة على الرأي العام، وهناك من لا يدركها، ولكنه يجد فيها مناسبة لإفراغ نقمته على هذه الجهة أو تلك، وفي كل الحالات تبقى إسرائيل المجرمة المستفيد الوحيد.
قبل أن نوجه "قبلات منتظر الزيدي" لهذا الحاكم أو ذاك، تعالوا نقرأ معلومات رددتها إسرائيل بهدوء اجرامي، دون أن يتوقف الكثيرون عندها، ولنعرف ما إذا كانت إسرائيل بحاجة إلى مساعدة أحد، إذ يقول مجرم الحرب بامتياز إيهود باراك، متباهيا في مؤتمر صحفي، أن جيشه خطط لهذه الحرب منذ أشهر طويلة جدا، ويتابع أقواله في اليوم التالي في جلسة حكومته قائلا، إنه على مدى اشهر جاهدت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية في جمع المعلومات، ولتظهر بعد يوم صور من الجو من هذه الأجهزة، ولنعرف أيضا من "مصادر عسكرية" لوسائل إعلام إسرائيلية، أن جيش الاحتلال تدرب لفترة طويلة على اجتياحات وقصف وقتل وكل أشكال الجريمة التي نراها ونعيشها اليوم.
لقد علمت التجربة أن إسرائيل لا تحتاج لأي مساعدة، والأهم أنها لا تكترث لأية جهة عالمية أو غيرها، ولا تعمل لحساب أجندات جهات غيرها، وكل هذا يفند رواية إسرائيل الرسمية، وكأن قرار الحرب على غزة اتخذ فقط في اليومين أو الثلاثة الأخيرة التي سبقت الحرب.
وأكثر من هذا، فإن العنوان الأبرز لوسائل الإعلام الإسرائيلية في اليوم التالي لبدء الحرب هو أن "الخدعة الإسرائيلية قد نجحت"، وهذه الخدعة ليست موجهة للضحية المباشرة فقط، بل أيضا لملايين الناس في عالمنا.
القضية ليست تبرئة هذا الحُكم أو غيره، أو تبييض وجهه، ولا الوقت يسمح بفتح محاكم التفتيش، أو إصدار صكوك غفران، لهذه الجهة أو تلك، وهذا ليس وقت المكاسب السياسية أيا كانت، على حساب شلال الدم الفلسطيني المتدفق، بل أن نكشف كل خيوط الجريمة الأساسية، ونوجه أصابعنا وسهامنا نحو المجرم الأساسي، الذي لا يخطط فقط لقتلنا جسديا، بل أيضا لقتلنا نفسانيا.
إسرائيل تدرك جيدا أن تأجيج حملات التشكيك والتخوين ستزيد من حالة البلبلة في الشارع، وهذا بطبيعة الحال يحجب وضوح الرؤية أمام الجماهير، والبلبلة وعدم وضوح الرؤية هما وصفة جيدة جدا لبث حالة الإحباط، وحين ينتشر الإحباط تتراجع جاهزية النضال والمقاومة، وهذه المعادلة التي تريدها إسرائيل.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر