إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



بين التعتيم الإسرائيلي و"موضوعية" الفضائيات

الأربعاء 14/1/2009
برهوم جرايسي- "الغد"- الاردنية

مثل كل حروب السنوات الأخيرة، فإننا أمام مشاهد بث حي ومباشر للمجزرة الإرهابية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، ولكن خلافا لما رأيناه في الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان في صيف العام 2006، فإن الإعلام الإسرائيلي لم يعد ذلك الإعلام "المنفتح" الذي يكشف فضائح الحرب لحظة بلحظة، على الرغم من تجنده من حيث المبدأ إلى جانب قرار شن تلك الحرب، وتحمسه المطلق لها، كما هو الحال اليوم أيضا.
والمتغيرات في الإعلام الإسرائيلي نجدها في أكثر من جانب، فأولا، وهو ما كشف عنه في الأيام الأخيرة حين بدأت صحف إسرائيلية تخرج عن صمتها، أو تتمرد على الصمت المفروض عليها، لتكشف أنها خاضعة لرقابة عسكرية صارمة جدا، وتعليمات مشددة على حركة الصحفيين، وحتى المراسلين العسكريين، الذين هم عادة يحصلون على ترخيص من الجيش والمؤسسة الأمنية للعمل في تغطية الأخبار العسكرية.
ويقول المحلل والمختص في شؤون الاستخباراتية والأمنية، يوسي ميلمان، في مقال له في صحيفة "هآرتس، إن الجيش يحاصر الصحفيين الاسرائيليين وحتى الأجانب العاملين في إسرائيل، في اماكن أعدت لهم مسبقا على مقربة من قطاع غزة، ويمنعهم من تغطية مستقلة لما يجري في قطاع غزة وهم يتلقون تقارير جزئية من موظفين يعملون لدى مكتب الناطق باسم الجيش، وبعد أن تكون الرقابة العسكرية قد أشرفت عليها، وهذا كما يقول ميلمان نفسه، "من أجل رسم صورة حرب انسيابية، ومنع وسائل الإعلام الإسرائيلية من نشر مشاهد القتل ودمار والرعب في غزة".
وهذا الاحتجاج الصحافي لا يتناقض إطلاقا مع استنتاج أن الإعلام الإسرائيلي مجند ومؤيد بشكل مطلق للحرب واستمرارها، وعلى الأغلب أن في الأمر جانب من المنافسة الداخلية بين الصحفيين، وهذا أمر بات ملموسا أكثر في هذه الأيام، على ضوء التقييدات المفروضة عليهم.
أما الأمر الثاني الذي له دلالة ذات أهمية، هو أنه خلافا لحروب سابقة أو عمليات عسكرية في هذه المنطقة أو تلك، فقد تراجعت كثيرا أصوات المحللين والكتاب وصناع الرأي، التي كانت تعارض الحرب منذ لحظتها الأولى، ولم نسمعهم كما في الماضي في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وحوصروا عمليا في صحيفة واحدة، وبالإمكان القول إنهم اثنان من بين البارزين، أكثر جرأة وحدة، وجدير بالاحترام والتقدير الصحفي غدعون ليفي الذي يهاجم بشدة الحرب ويتحدث دائما عن كوارثها على الشعب الفلسطيني، والثاني عقيبا إلدار، وإن كان في حديثه أحيانا بعض التلعثم.
بمعنى أن إسرائيل شنت من جهة حربا دموية، ومن جهة أخرى فرضت حربا أخرى داخلية لكم الأفواه، إلى درجة أننا بتنا نسمع مصطلحا لن نسمعه من قبل في الكيان الإسرائيلي وهو: "المس بمعنويات الشعب"، إذ ادعت الشرطة الإسرائيلية أمام إحدى المحاكم التي نظرت في تمديد اعتقال ناشطين عرب ضد الحرب تظاهروا في تل أبيب، أن المظاهرات ضد الحرب "تمس بمعنويات الشعب الإسرائيلي".
وأمام مشاهد التعتيم هذه تظهر قنوات التلفزة الفضائية العربية، وتحت شعار ومنطق الموضوعية والرأي الآخر، وقد استدعت إلى استوديوهاتها في إسرائيل، أشرس الناطقين الاسرائيليين ليبثوا بسمومهم من خلال هذه الشاشات، لتصل رغما عنا إلى غرف بيوتنا، في وقت يحتاج المرء منا إلى أعصاب فوق العادة ليحتمل مشاهد الارهاب الإسرائيلي على أجساد أطفال غزة، وأمهاتهم وآبائهم وأجدادهم، وكل فرد صغيرا كان أم كبير.
وقد لا يجوز لي كصحفي أن أدعو إلى مقاطعة صحفية لهذه الجهة أو تلك، من باب "الموضوعية"، ولكن شتان بين الموضوعية الحقة وبين ما يجري في الفضائيات العربية، وهناك حقائق لا تصل إلى الجمهور المشاهد والمتابع، وهو أن هذه الفضائيات التي لها مكاتب في داخل إسرائيل، خاضعة هي أيضا للرقابة العسكرية الإسرائيلية، في كل ما يتعلق بمعطيات وتحركات الجيش وقتلاه وما شابه، وتفرض عليها المؤسسة الإسرائيلية استحضار ناطقين ومسؤولين اسرائيليين بمستويات مختلفة.
وعلى أساس هذا فإننا نرى أن قطار الناطقين الاسرائيليين لا يتوقف في الفضائيات البارزة، بدءا من الرئيس الإسرائيلي بيرس ورئيس الحكومة أولمرت وأبرز الوزراء وأكثرهم حقدا، وحتى الناطق بلسان الجيش، كل واحد منهم يقدم قسطه في حرب إسرائيل النفسية، ولا يسعف المشهد انضباط ذلك المذيع، أو محاولاته لتوجيه أسئلة بلغة مؤدبة ورسمية.
وما يثير الغيظ في هذا الموضوع، هو أن أحد الجوانب التي تتباهى بها إسرائيل في هذه الحرب الإجرامية، هو دخول دعايتها وروايتها إلى أكبر وسائل الإعلام العربية، ونشرت عدة تقارير "معجبة" بالناطق باسم جيش الاحتلال باللغة العربية، ذلك الوقح المدعو "افيحاي أدرعي"، وكيف أنه "يتصدى للمذيعين وللناطقين الفلسطينيين" من على شاشات الفضائيات العربية.
وما يزيد الطين بلة، هو أن هذه الفضائيات وعلى شتى تسمياتها، تستحضر بعضا من الأسماء الإسرائيلية وتعرفهم على أنهم "محللين"، ولكن قسما منهم يعملون في التلفزيون والإذاعة الرسمية في إسرائيل باللغة العربية، وهذا البث الرسمي العربي تابع مباشر لأجهزة الأمن الإسرائيلية، بمعنى أنهم لا محللين ولا يحزنون، بل هم أبواق المخابرات الإسرائيلية.
ومن أجل أن يكون الموقف واضحا هنا، فإن الأمر لا يعني معارضة شاملة وكلية لظهور اسرائيليين أو محللين يهود في هذه المحطات، ولكن هناك أسماء معروفة حتى لهذه الفضائيات على أنها جزء من الحرب النفسية الإعلامية التي تبثها إسرائيل، وتصل عنوة إلى بيوتنا عبر شاشاتهم.
في حقيقة الأمر فإن محطات التلفزة هذه مشكورة على جهدها في تغطيتها لما يدور في الجانب الفلسطيني، ولكن في المقابل عليها أن تكون أكثر صراحة مع المشاهدين لدى استحضارها هذه الأفاعي الإسرائيلية السامة، وأن تكون لديها حساسية أكثر، إذ تكفينا حرب دموية، ولا حاجة لاقتحام غرفنا وبيوتنا بحرب نفسية موجهة ضدنا بالأساس.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر