إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



"قتلناهم خطأ" لذا اقتضى التنويه

السبت- 25/4/2004
برهوم جرايسي- "الغد" الاردنية

"ضربني بوشّه على إيدي يا بيه"، قال عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة"، ومن دون تشبيه، وشتان بين الحالتين، فقد اعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية برمتها، هذا المنطق في التحقيقات المزعومة بمجريات الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
ويدعي جيش الاحتلال أنه أقام "عشرات لجان التحقيق" في سلسلة من "الحوادث" كما يسميها الجيش، وقعت خلال الحرب الشرسة على قطاع غزة في مطلع العام الجاري، و"تبين" للجيش أنه وقعت "بضعة أخطاء محدودة جدا، تسببت بمقتل عشرات الفلسطينيين، ولكن لم يكن في هذا أي قتل متعمد"، كما يصرّح نائب رئيس أركان جيش الاحتلال دان هارئيل.
وراح الجيش يلعب بالأرقام والمعطيات، وحسب قاموسه، فإن عدد "المدنيين" الفلسطينيين الذين قتلوا خلال الحرب كان 280 فلسطينيا، وليس 700 أو 800 كما يقول الفلسطينيون، حسب تعابير الاحتلال، بمعنى أن الجريمة من منظور إسرائيل باتت الآن أخف، فكل ما في الأمر 280 فلسطينيا.
إسرائيل ليست غبية، ولا تستغبي أحدا، حين تعطي للمجرم فرصة التحقيق مع نفسه، ليثبت لنفسه أنه بريء، وكل ما في الأمر أنه ارتكب أخطاء دون قصد، وحتى تبين له أن الضحية هي السبب في هذه الأخطاء.
فحين يصدر جيش الاحتلال تقريرا كهذا، يكون مطمئنا سلفا لوجود أسرة دولية ستتلقف تقريره بترحاب، لتستند إليه، بهدف إعفاء "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، ولربما في التاريخ قاطبة، من محاكمة مجرميه أمام أجهزة القضاء العالمية والأوروبية.
فبموجب المحكمة الدولية، ومحاكم في دول أوروبية، فإنه من الممكن عدم النظر في دعاوى تقدم لها ضد جهات معينة، في حال تبين أن تلك الجهة أو غيرها تحقق في القضية موضوع الشكوى، ولهذا فإن الهدف من تقرير الجيش الإسرائيلي هو التعامل مع هذه الثغرة في القانون الدولي، التي تم وضعها بخبث، نلمس نتائجه في كل مرّة تكون فيها الجرائم الإسرائيلية موضوع شكاوى.
ما يجري في العالم، على مستوى القانون الدولي، أو على مستوى "أوروبا حقوق الإنسان"، هو مسرحية قد تكون مضحكة، ولكنه ضحك ينزف دما وألما، وتأكد ما نعرفه دائما، أن القوانين الدولية هذه، هي قوانين ضد المستضعفين، ضد الشعوب الضعيفة لتكون عبرة لذاتها هي، ولتحمي المجرمين الكبار، طالما هم كبار، وأوروبا أكثر من غيرها تظهر عارية جدا في هذه المعادلة.
فقد أيقنت دول أوروبية عديدة في السنوات الأخيرة أنها تورطت في القوانين التي تبنتها، وتجيز لها محاكمة مجرمي حرب حتى وإن ارتكبوا جرائمهم في دول أخرى، وضد شعوب أخرى، وهذه الورطة تجلت أمام حكومات أوروبا، فقط حين بدأ الحديث عن مجرمي الحرب الإسرائيليين.
فبرلمان بلجيكا يجتمع على عجل لتعديل القانون من أجل عدم إلقاء القبض على رئيس حكومة إسرائيل أريئيل شارون، بعد تقديم شكوى ضده في قضية مجزرة صبرا وشاتيلا، ليعفي القانون محاكمة رؤساء حكومات يشغلون مناصبهم، وبريطانيا تسارع لإبلاغ جنرال إسرائيلي بألا ينزل من الطائرة في مطار لندن لئلا يتم اعتقاله، "يا جماعة سامحونا وانتظروا حتى نعدل القانون"، لسان حال المملكة المتحدة، أما اسبانيا فقد أصدرت قرارا جارفا يمنع المحاكم من النظر في طلب اعتقال سبعة من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين بسبب جرائم حرب مثبتة ارتكبوها ضد الشعب الفلسطيني.
وهذا مسلسل أوروبي لا يتوقف، بل نحن الآن في انتظار النرويج التي تطرح على محاكمها في هذه الأيام دعاوى من جهات فلسطينية ضد قادة إسرائيليين، وقد تطول قائمة الدول الأوروبية، لأن لا وهم لدينا بأن العالم غيّر جلده.
وأمام مشهد عالمي كهذا، تدرك إسرائيل أن بامكانها ارتكاب جرائم دون محاسب، لا بل وأن تفرض على العالم جدول أعمال وقاموسا بلغتها، في كل ما يتعلق بالعنصرية وجرائم الحرب، وتشعر أن بمقدورها تحديد شرعية هذا المؤتمر وذاك الملتقى الدولي لشؤون حقوق الإنسان أو لمناهضة العنصرية، وتجد آذانا صاغية تتعاون معها، بما فيها أميركا أوباما، وليس فقط أميركا بوش.
قد يكون "الخطأ التاريخي" الذي ارتكبه الفلسطينيون أنهم بقوا في وطنهم، يتصدون للمحتل ويقعون فريسة لجرائمه المستمرة، فلو مثلا انتقلوا بشكل جماعي إلى دارفور أو إلى رواندا، لكان نصيبهم من "العدالة العالمية" أفضل، لأنهم طالما بقوا في فلسطين، فإنهم سيبقون عرضة "للرصاص الخاطئ"، من "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، ليكون موت الفلسطيني بأي شكل من الأشكال، مجرد خطأ عابر، قد يحظى أحيانا بتنويه في موجز أنباء عابر، ولا أكثر.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر