اسألوا شعبها! لقد نجح مبارك واعوانه ومن قبله السادات، وبعده مرسي والسيسي من تغيير ومصادرة دور مصر الريادي والقومي، نجحوا بإخراج مصر من المعركة مع الامبريالية ومع الرجعية العربية والصهيونية. مصر اليوم مريضة، ارادة شعبها مصادرة، انتماؤها لمصالح العرب القومية والوطنية مرتبط بخيوط واهية، خيوط امريكية. مصر اليوم غارقة في سياسة التبعية لأمريكا ودول الخليج والسعودية. انها كالجمل الذي تجره ماعز، لأن الجمل سريع النسيان، وفاقد للذاكرة، أين سيأخذ هذا الماعز مصر؟ اسألوا شعبها!,
عندما نقلت وسائل الاعلام الاسرائيلية في نهاية الاسبوع الماضي نبأ دعوة وزير الطاقة في حكومة الاحتلال العنصري يوفال شطاينيتس من قبل الرئيس المصري السيسي، لحضور مؤتمر الطاقة الذي عقد في القاهرة، والحفاوة التي استقبل بها من قبل اعوان السيسي، سألت نفسي هل هذه هي مصر حقيقة؟! كان الجواب أننا اليوم نعيش مع مصر استثنائية، وأنه يوجد أكثر من مصر واحدة عبر التاريخ، لكل عصر وله مصر تختلف عن العصر الذي سبقه، أو العصر الذي يليه، فمصر الفاطمية تختلف عن مصر الأيوبية، في عصر مصر الأيوبية كانت مصر تقود العرب بقيادة صلاح الدين الايوبي الذي ادرك بأنه من غير الممكن الانتصار على الفرنجة دون توحيد مصر مع سوريا والعراق، وهذا ما حدث، وانتصر العرب في معركة حطين التاريخية في الثالث من تموز عام 1187. لكن مصر الايوبية الأولى لم تستمر، وخلفتها مصر أيوبية ثانية حكمها طغاة ومماليك، امثال الملك الكامل الذي فرط بالقدس وقام بتسليمها لملك المانيا نكاية بأمير دمشق وهو أيضًا من السلالة الأيوبية، وسبقه المملوك شاور الذي هو الآخر تحالف مع الفرنجة، واستعد لتسليم مصر نكاية بالعديد من الامراء العرب. استمرت مصر في الزحف مع الزمن الى أن سيطر عليها العثمانيون عام 1517 بقيادة السلطان سليم الأول. فأدخلوها في غياهب الظلمات وزرعوا الفساد فيها، كان هم السلطان هو دفع الاتاوات السنوية للباب العالي، وكانت هذه الاتاوات تدفع بمناسبة قدوم عيد الفطر. لكن فجأة اشرقت على مصر شمس الحداثة، حملها معه نابليون من اوروبا عام 1798، رغم احتلاله البغيض، إلا أنه فتح نافذة بين مصر والحضارة الاوروبية، ولحسن حظ المصريين خلفه في الحكم محمد علي باشا، الذي وسع نافذة نابليون وحولها الى بوابات واسعة، دخلت منها الحضارة الاوروبية، فأقيمت المدارس والمصانع، وحفرت الترع، وادخلت الطباعة، وارسلت مصر الطلاب لينهلوا العلم من الجامعات الاوروبية، لكن اطماع محمد علي باشا اوقفت هذا المد الحضاري بسبب الحروب المتواصلة التي خاضها، لأنه كان يحلم بإقامة امبراطورية مصرية خلفًا للامبراطورية العثمانية، فمنعته الدول الاوربية من تحقيق أحلامه. بعد رحيله ورثها أولاده وأحفاده مثل سعيد واسماعيل حاولوا الاستمرار بتطوير مصر، فوافقوا على حفر قناة السويس، لكن هذه القناة وأهميتها زادت من الصراع بين الدول الأوروبية للسيطرة على مصر، وقد انتهى هذا الصراع بالاحتلال البريطاني عام 1882، فاستقبل التاريخ مصر جديدة، مصر تقارع الاحتلال البريطاني، ولم يوافق الاحتلال على منح مصر الاستقلال المحدود الا عام 1936، مع بداية حكم ثاني ملك لمصر فاروق بن فؤاد، ملك مصر الأول. بدأت مصر في زمن حكم فاروق تأخذ طابعًا سياسيًا مزاجيًا مغايرًا، يحاول ان يجمع ما بين ملكية فاسدة وهيمنة بريطانية، مع وطنية تحاول ربط مصر بقطار العروبة، ووطنية تحاول ربط مصر بقطار الفرعونية، ووطنية تحاول ربط مصر بالخلافة الاسلامية، التي كانت لا تزال حلمًا يتغنى بها الاتراك في اسطنبول. رغم الحكم الملكي الفاسد في مصر في عهد الملك فاروق، إلا أنها استقبلت العديد من زعماء الحركات الوطنية داخل الأقطار العربية، لجأوا اليها هربًا من ملاحقة الدول الاستعمارية وعندما ولدت مصر جديدة بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، وجدت الثورة العديد من اللاجئين السياسيين الذين قادوا أو دعموا الحركات الوطنية في كل من المغرب وتونس وليبيا والجزائر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والسودان. ليس صدفة أن مفتي القدس أمين الحسيني، اتخذ من القاهرة مقرًا له، أثناء قيادته للحركة الوطنية في فلسطين ضد الغزو الصهيوني لفلسطين، وضد سياسة الانتداب البريطاني، وقد استقبل المفتي وفودًا تمثل منظمة النجادة في مقره في القاهرة الذي كان يقع في احد قصور حي الزيتون. من بين القادة والزعماء العرب الذين تواجدوا في مصر قبل الثورة نجد محمد الخامس الذي أصبح ملكًا على المغرب، ومجموعة من القادة والأدباء المغاربة الوطنيين، نذكر منهم الكاتب والسياسي عبد الكريم غلاب، فقد تحدث في كتاباته عن تأسيس نواة الحركة الوطنية المغربية في مصر، التي قادت النضال لنيل الاستقلال. وعندما فشلت الثورة في اليمن عام 1948، ضد الامام لجأ قادتها أيضًا الى القاهرة – ام الدنيا وام العرب وبحق – كما أن القاهرة لم تبخل في استقبال وإيواء وحماية العديد من قادة الحركات الوطنية في كل من العراق وسوريا، فقد التجأوا اليها هربًا من بطش نوري السعيد، ومن بطش الاستعماري الفرنسي لسوريا ولبنان. فرض النظام الملكي في مصر على هؤلاء اللاجئين السياسيين عدم القيام بأي نشاط سياسي، ولكن بعد قيام الثورة، وجد هؤلاء اللاجئون انفسهم يعيشون في مصر جديدة، مصر أخرى، ثورية وطنية، فقامت الثورة بدعم كافة الحركات التي كانت تدعو لكنس الاستعمار والتخلص من الانظمة الرجعية، لقد قدمت الدعم للزعيم التونسي الحبيب بورقيبة أثناء لجوئه الى القاهرة، كما قدمت الدعم للملك محمد الخامس، فحصلت الدولتان على استقلالهما عام 1956. أما دعم مصر لثورة الجزائر، فحدث ولا حرج، قدمت مصر الثورة والوطنية السلاح والاموال والرجال والدعم الاعلامي، كذلك وقفت الثورة ضد سياسة السعودية الرجعية، وممارسات حكومة النظام الملكي في العراق القمعية، كان من بين اللاجئين السياسيين العراقيين في القاهرة، رشيد عالي الكيلاني، وعدد من ضباط الجيش الذين ساعدوه في ثورته عام 1941. ومن ينسى دور مصر في عصرها الوطني الذهبي في دعم ثورة جنوب اليمن ضد الاحتلال البريطاني، ودور مصر الاستثنائية في وجودها في دعم ثورة عُمان ضد سلاطينها، خاصة في الجبل الأخضر، ودور مصر التاريخي في دعم ثورة اليمن الشمالي التي قامت لتخليص اليمن السعيد من حكم الامام الرجعي، ولولا مصر لفشلت هذه الثورة، لأن السعودية والى جانبها بريطانيا وامريكا واسرائيل والاردن، حاولوا اجهاض الثورة، وهي لا زالت في المهد. لم تتردد مصر في استقبال العديد من المناضلين العرب مدنيين وعسكرين الذين فروا من بلادهم خوفًا من بطش السلطان بها. استقبلت مصر عددًا من الطيارين الاردنيين الذين التجأوا إلى القاهرة عام 1963، لأنهم رفضوا نقل السلاح والعتاد الى مرتزقة الثورة المضادة ضد ارادة الشعب في اليمن الشمالي، نذكر من اسماء هؤلاء الطيارين العقيد منذر الحسن والطيار تحسين صاينة، كما استقبلت عددًا من الاعلاميين من صحفيين ومذيعين الذين رفضوا طاعة الملك حسين في الاردن والملك سعود، نذكر من هؤلاء المذيع الفلسطيني-الاردني المعروف رسمي أبو علي، والمذيع السوري عبد الهادي البكار ومدير اذاعة حلب توفيق حسن والمذيع المعروف منذر عقيل. وغيرهم. كما استقبلت مصر عددًا من الضباط الاردنيين الذين عارضوا سياسية النظام الملكي نذكر منهم العقيد عبد الله التل قائد منطقة القدس في حرب عام 1948، فقد عرّى وكشف كافة المؤامرات التي قام بها عبد الله ملك الاردن، وكما استقبلت العقيد علي أبو نوار الذي اتهم بمحاولة انقلاب عسكري في عمّان. كم من الشعراء والادباء والوطنيين العرب لجأوا إلى مصر، لأنها كانت حاضنة للوطنيين، وقلعة الصمود والتحدي، بفضل قادتها العظام وعلى رأسهم الرئيس الخالد جمال عبد الناصر، هذه ومضات عن دور مصر الثورة والعروبة وقاهرة الاستعمار خلال فترة قصيرة من وجودها، لم تتجاوز العقدين من الزمن، هذه مصر أخرى، مصر استثنائية، مصر التي خلدها التاريخ، فقط لمدة عقدين من الزمن عاشت مصر بقيادتها وشعبها احداثا ثورية حقيقية، لكن القوى المعادية من عربية واجنبية بالتعاون مع الصهيونية، عملت كل ما باستطاعتها لدحر مصر الثورة عن موقعها، وايجاد مصر اخرى، لا تختلف عن مصر التي عرفها العالم زمن الملك الايوبي الكامل، وزمن المملوك شاور، ومصر العثمانية والملكية فيما بعد. ثم مصر السادات ومصر مبارك والسيسي. لقد نجح مبارك واعوانه ومن قبله السادات، وبعده مرسي والسيسي من تغيير ومصادرة دور مصر الريادي والقومي، نجحوا بإخراج مصر من المعركة مع الامبريالية ومع الرجعية العربية والصهيونية. مصر اليوم مريضة، ارادة شعبها مصادرة، انتماؤها لمصالح العرب القومية والوطنية مرتبط بخيوط واهية، خيوط امريكية، عندما يستدعي السيسي العنصري شطاينيتس او عندما يتحدث مع نتنياهو هذا يعني ان تهويد القدس والاقصى والقيامة لا تعنيه، وهذا يعني أن هدم البيوت وحصار غزة وقتل الفلسطينيين اليومي لا يعنيه، ومصر اليوم غارقة في سياسة التبعية لأمريكا ودول الخليج والسعودية. انها كالجمل الذي تجره ماعز، لأن الجمل سريع النسيان، وفاقد للذاكرة، أين سيأخذ هذا الماعز مصر؟ اسألوا شعبها!