في دائرة الدم



*الحاجة الاكثر فورية بالنسبة لاسرائيل ليست انجازا عسكريا او اعلاميا آخر، بل الخروج من الدائرة الدموية باسرع وقت ممكن، وقف النار أو تسوية معقولة، تؤجل على الاقل الانجراف نحو الفوضى. والا فلن يبعد اليوم الذي سيسألوننا فيه ليس ما نفعله في غزة وفي نابلس، بل لماذا نحن نوجد في سديروت (لحظة، لماذا يبعد اليوم؟ فهذا بالضبط كان أحد أسئلة المذيعة من الـ بي.بي.سي التي وجهت الى رئيس بلدية سديروت هذا الاسبوع بالذات)*


مذيعة الاذاعة البريطانية الـ بي.بي.سي توجهت لرئيس بلدية سديروت ايلي مويال، الذي وصل الي لندن لاهداف الاعلام (بمعني، لمسرحية المَسكنة التي تنافس مسكنة الفلسطينيين): إذن ما الذي تقوله ، سألته بنبرة املائية محفوظة لمن تجري المقابلات معهم من العالم الثالث – هل كل العالم مخطيء وانتم فقط المحقون؟
وكررت هذا السؤال الاستنكاري المرة تلو الاخري، وكأنه علي سبيل العادة، دون أن توضح في ماذا العالم محق بالنسبة لحماس ولنار القسام، وكذلك دون صلة بأقوال الضيف. فمن جهته كرر وأحصي آلاف الصواريخ التي سقطت علي مدينته، وبقوة اكبر منذ فك الارتباط ، وكرر وسأل استنكاريا لماذا يطلقون النار ، فيما يتمسك بالقشة الاخيرة والوحيدة التي تبقت من فك الارتباط : الحقيقة، الخالدة في نظرنا - في أنه لم يعد هناك احتلال في غزة . غير أن هذه الحقيقة القاطعة في حقها وكأن بها تمر من فوق رأس المذيعة مثلما تمر من فوق رأس كل العالم .
المقابلة بمجملها لم تكن معادية علي نحو خاص. ظهور موئيل كان طلقا، وبالذات لهذا السبب كان هناك شيء منعش للقلب في تلك الوقفة الاسرائيلية المعروفة جدا، للقناعة العميقة بحقنا، واليأس العميق بذات القدر من شرحه. فهذه هي الزاوية الدائمة التي تحشر فيها اسرائيل منذ عقود، حتي بدون صلة بأفعالها والتطورات في منطقتنا. ودائمة بقدر لا يقل عن ذلك - وتواصل علي هذا النحو - هي تلك البلاغة الاعلامية الملتوية والمتعرجة نفسها، التي تلعب فيها دوما دور النجم كلمة "ولكن"..  كنت مستعدا لان أتحدث ليس فقط مع حماس، بل وحتى مع الشيطان ، صرّح موئيل ايضا، قبل أن يعود ليكرر الخط الاعلامي الرسمي: ولكن كيف يمكن الحديث مع من يرغب في تصفيتك؟ ولنا أيضا ذات الخط الاعلامي المظفر والثابت، من النوع الذي نديره منذ اربعين عاما في كل الجبهات( نحن مستعدون للحديث مع سورية، ولكن...) الي جانب النجاحات العملياتية التي لا حصر لها.
ولكن رغم كل جهودها لادارة سياسة خارجية حكيمة، فان اسرائيل - وأساسا بسبب مباديء راسخة ونشاطات عسكرية تبدو وكأنها تحدث علي سبيل القصور الذاتي - تجد نفسها المرة تلو الاخري في ذات الزاوية حيث أنها كلما كانت أكثر حقا وضحية في نظر نفسها تبدو اكثر قساوة قلب وعدوانية في نظر العالم. وهنا المشكلة ليست اعلامية . ربما العكس: ربما بالذات بسبب الايمان الكبير بقوة الكلمات لشرح وتفسير كل تضارب وتعارض - لم تعد اسرائيل تعرف ما الذي تبثه غير الكلمات، والي اين تدحرجت مع مرور السنين.
إذ ليس واضحا في أنه كلما بات النزاع في منطقتنا عضالا ومنيعا علي الشفاء، لم يعد اهتمام ومنفعة لكل التفاصيل الاعلامية حول من هو محق في استئناف دائرة الدم؟ وأي حساب صفّته جفعاتي مع أي منظمة فلسطينية؟ وكعقاب علي أي عملية قبل عقد من الزمان صُفي احد ما وهدم بيته، بثمن جولة حربية اخري؟ إذ في هذه الاثناء بينما نحصي أحقية موقفنا ونذالة وعناد اعدائنا - الزمن يفعل فعله، وتقريبا دون أن نشعر نصبح جزءا من أسوأ ما تشمله دائرة الدم نفسها؛ نهبط معا الي ذات الهوة، مع تلك العصابة المدعية للكرامة و احقاق العدل و اغلاق الحساب . وحتي لو بدا محقا اغلاق حساب دموي قديم، في اطار ذات النهج التربوي الذي علي أي حال يعمل المرة تلو الاخري كالسهم المرتد - فالى اين هذا يقودنا: عمليا، اخلاقيا، ومن حيث صورتنا؟ بين الحجة الساحقة اعلاميا، وبين العملية، بين الرد عليها - اسرائيل وفلسطين تندمجان في عجينة منفرة واحدة. وتجاه اسرائيل يكون النفور اكبر، لعله بالذات بسبب بقايا التوقعات منها.
القول لا تكن محقا، بل كن حكيما لم يكن عاجلا وحيويا بالنسبة لاسرائيل اكثر مما هو اليوم، ولا سيما في المواجهة مع عدو ترغب في أن تتميز عنه وعن اساليبه. الحاجة الاكثر فورية بالنسبة لنا ليست انجازا عسكريا او اعلاميا آخر، بل الخروج من الدائرة الدموية باسرع وقت ممكن، وقف النار أو تسوية معقولة، تؤجل على الاقل الانجراف نحو الفوضى. والا فلن يبعد اليوم الذي سيسألوننا فيه ليس ما نفعله في غزة وفي نابلس بل لماذا نحن نوجد في سديروت (لحظة، لماذا يبعد اليوم ؟ فهذا بالضبط كان أحد أسئلة المذيعة من الـ بي.بي.سي التي وجهت الي موئيل هذا الاسبوع بالذات).

("هآرتس"، يوم الجمعة الفائت)

دورون روزنبلوم*
الثلاثاء 25/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع