دائرة العسكرة المُفرغَة



من غير أن يقصد، أصاب أحد المواقع الصحفية الاسرائيلية، أمس، حين كتب أن مئات جنود وضباط سلاح الجو "اقتحموا" نحو 450 مدرسة، بغية إقناع طلابها "بأهمية قيمة" الخدمة العسكرية. فعلا، لا يمكن وصف مشروع كهذا سوى بالاقتحام والاحتلال.
ففي السنة الستين لإقامة دولة اسرائيل، يتم تشريع بوابات المدارس والسماح للجيش بانتهاكها مباشرة وبفظاظة. هناك خلط خطير بين حدود الحرم المدرسيّ وبين حدود تفشّي العسكرة. وبدلا من التربية على قيم الحياة والسّلم يجري تجاوز خطوط حمراء بغية إبقاء آلة الحرب بمثابة الصّمغ الأشدّ الذي يلملم قطاعات المجتمع الاسرائيلي.
من الواضح أن هناك أزمة، سنتوقف بشكل خاطف عند بعض مسبباتها فيما يلي، بحيث لم تعد الخدمة العسكرية مفهومة ضمنًا. وهكذا يجري تلويث التربية المدرسية مباشرة بـ "ثقافة" العسكرة، التي لا تزال أحد أهم العوائق أمام اتخاذ قرار اسرائيلي رسمي واضح بترك عقلية الحرب، والجنوح الى مستقبل مُشّيد على دعائم السلام والانخراط في المنطقة والنظر الى شعوبها كجيران وليس كأعداء.
كذلك، لا يُخفي مراقبون اسرائيليون أن اتساع الفجوات الطبقية داخل المجتمع الاسرائيلي بات يُبعد الشاب الاسرائيلي عن رؤية الخدمة العسكرية كجزء من التزامه نحو الدولة. هذا متوقّع بل طبيعيّ، فالدولة التي تقرّر اعتماد سياسات نيوليبرالية وتشطب التزاماتها نحو أساسيّات حياة المواطن، لن تلبث أن تفقد قيمتها لديه. لكن المؤسسة الحاكمة، بدلا من إصلاح الحالة الاجتماعية-الاقتصادية عبر اعتماد منطلقات أكثر عدالة، تحاول اقتناص الحلبة برمّتها، فتروح تشنّ حملات ترويجٍ لغسل أدمغة الشبان وابقائهم خدمًا للآلة العسكرية، من دون إبداء التزام حقيقي بحقوقهم.
كذلك، فالمقلق هو أن الثمن الفادح لهذا النهج العنيف لم يعلّم المؤسسة الاسرائيلية بعد أنه آن الأوان لإحداث انعطافة. بل إنها تواصل تأبيد الوضع القائم، وبالتالي الإبقاء على  حالة "العيش على الحراب". هنا، يتعمّق نفوذ المؤسسة العسكرية أكثر فأكثر، وتزداد خطورة التحذيرات من أن الجيش هو من يحكم هذه الدولة، عمليًا.
فهناك رابط قويّ بين مواصلة اعتماد سياسة الحرب، وبين التعزيز المتواصل لحضور وتأثير الرمز والممارسة العسكريين في المجتمع. إن الأمر أشبه بدائرة مفرغة، حيث تغذّي سياسات تنصّل الدولة من التزاماتها تجاه المواطنين حالة الحرب، كونها السبيل الوحيد لإبقائهم مسجونين في وهم "الإجماع القومي"، وصرف أنظارهم عما يتعرّضون له يوميًا من قمع اجتماعي واقتصادي وحياتيّ.
إن الخروج من هذه الدائرة المقفلة يستدعي وقف سياسة الحرب من جهة، ووقف السياسة النيوليرالية الرأسمالية من جهة الخرى. فكلا السياستين جريمة تغذّي إحداهما الأخرى، وهو ما لا تزال تدفع ثمنه جميع الشرائح المقموعة في اسرائيل.

"الاتحاد"

الخميس 27/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع