اعتذاراتي الـمتأخرة



هل يستطيع الأدب أن يوقف الـموت؟ أو على الأقل أن يؤخّره أو يربكه؟ سيبدو سؤالي بلاغةً مضحكةً أو ترفاً مثيراً للشفقة، أو لعبة لغة سخيفةً، لكن القصّة التي سأحكيها سوف تضعنا أمام صورة غريبة لا مجال لتفسيرها بغير الاعتراف ــ حتى لو كنّا مترددين ــ في قدرة الأدب على عرقلة أو مناكفة أو مشاغبة خطى الأمراض داخلنا، لا أحد بإمكانه أن يقنعني بأن قراءة الأدب لا تشرح القلب ولا تفتح الـمسامات ولا تجدّد حيوية الدم عبر استنفار حيوية الروح، أو أنها لا توقظ في الجسد نوافذ مفيدةً للخلايا. لـماذا نشعر إذاً بقشعريرة في جلدنا حين ننهي رواية لدستوفسكي أو قصيدة للوركا،؟ لـماذا يزول الصداع منّا حين نستمع إلى الـموسيقى؟ دراسات أوروبية حديثة كثيرة أكدت قدرة القراءة الأدبية السحرية والـموسيقى على تخفيف أو تبطيء شراسة الـمرض إلى حدّ كبير.
أحد مرضى القلب الأوستراليين، قال إنه يشعر بأن دفعات غريبة وقوية من دم جديد تُضخ في قلبه، حين يقرأ نصوص البرتغالي العظيم فرننادو بيسوا.
بشكل لا يطاق سكنني متحمسو محمد طمليه الأوغاد (الـمتحمسون الأوغاد)، بعثروا انتباهاتي، عاشوا على طاقتي، كنت قد قرأت هذه الـمجموعة القصصية، في أواخر الثمانينيات في مدينة عواصفي وجسدي: إربد، أعارها لي شخص أعمى، وهو صديق لصديقي، أتذكر بقوة أنني لسببٍ ما نسيت أن أشكر الشخص الأعمى، فسمعته يقول لصديقي وأنا أهبط درج البناية "صديقك هذا لا يستحق الكتاب، تصوّر أنه بخل علي بكلـمة شكر، على كلٍّ أتمنى أن يلاقي عقابه على أيدي متحمسي محمد طمليه الأوغاد، اللهم سلطهم عليه".
يبدو أن لعنة الأعمى ما زالت تفعل فِعلها. فما زلت أعيش حتى الآن عبئاً ضخماً لاعتذارات أدين بها لـمحمّد طمليه، ولأبي محمد، وسالي، والأعمى، ولزياد أيضاً.
في أواخر الثمانينيات كنت أدرس في جامعة اليرموك الأردنية، الحالة الـمادية كانت ممتازةً، فالـمصروف والرسوم تأتي من الأهل تباعاً وبانتظام، وفجأة انقطع كل ذلك؛ من جرّاء ظروف الانتفاضة، عشت مع أصحابي الأربعة جوعاً رهيباً، أتذكّر رائحة البصل الحريفة مع الخبز، وقتها عرفنا الـمعنى الحقيقي لكلـمة الجوع، مع أن أسرة أردنية طيبة جداً كانت جارة لنا، لـم تبخل علينا بالطعام، إلاّ أننا كنا نخجل، أقنعنا العائلة بأن كل شيء على ما يرام فالأموال وصلت أخيراً، ولـم نكن ننام وبطوننا تغلي بالفراغ. بدأت الحكاية بدخولي إلى بقالة صغيرة أمام بيتنا، كنت أنوي أن أفاتح صاحب الـمحل بقصة جوعنا وأن أفتح معه صفحة دين في دفتر ديونه، صادفت هناك صديقاً لي كان يشتري علبة سردين، ربت الصديق على كتفي وقال مازحاً وهو يخرج: كيفك يا طمليه؟، خاطبني بطمليه لأنه يعرف مقدار حبي لقصص ومقالات محمد طمليه وخصوصاً عموده اليومي في (الدستور) "شاهد عيان"، خرج صديقي ولاحظت أن الحاج أبو محمد ينظر إليّ ويبتسم: أنت الكاتب محمد طمليه أليس كذلك؟ أجبته: نعم، معتقداً بأنه يمزح معي، لكنه صدّق ذلك بقوة، كأنه كان يريدني أن أكون محمد طمليه بإصرار غامض، حمّلني أبو محمد علب سردين كثيرة وخبزاً وجبناً وعصائر، وقال لي: حين تأتي الأموال تدفع ولا يهمك،عرفت لاحقاً أنه يتابع "شاهد عيان" باستمرار، ويحتفظ بأرشيفها، وهكذا ولـمدة بضعة أشهر حلت بهذه الطريقة مأساة الجوع، كانت قوالب الحلوى اللذيذة تطرق بيتنا كل أسبوع تقريباً، مرشوشةً بالكريما وعليها جملة تتكرر باستمرار: "إلى محمد، أجمل كاتب في العالـم". صرت محمد طمليه، حتى زملائي كانوا ينادونني بمحمد، يناقشني أبو محمد بزاويتي كل يوم ويسألني عمّا أفكّر بكتابته غداً فأتلعثم وأهرب، كان يبتسم ظاناً أن الكاتب بطبيعته شخص متعثر ومشوش، كنت أشعر بضيق وقلق شديدين قبل النوم؛ لأنني أستغل اسم محمد وسذاجة الرجل، قادني هذا الشعور إلى طرق باب أبي محمد ليلاً حافي القدمين لأقول له والدموع تخنق وجهي: أنا لست محمد، أنا زياد، وأحب محمد طمليه مثلك. فوجئت بأبي محمد يهز رأسه وكأنه يعرف ذلك، كانت الدموع هو الآخر تملأ وجهه، رجلان دامعان يقفان وجهاً لوجه في ليل إربد الغامق. منذ أسابيع فقط عرفت ذلك، قال لي، لكن سالي ابنتي الوحيدة "تابع أبو محمد" ابنة الخمسة عشر عاماً، لـم تعرف حتى الآن، محظور عليها أن تعرف أنك لست محمد، هي تراقبك بفرح وحب كل يوم من النافذة وأنت تخرج وتدخل إلى البيت، سالي تحتفظ بكل ما كتب محمد من قصص ومقالات، في الصباح قبل الفطور تقرأ عموده، فتفرح بشكل لا يصدّق وتمشي فجأة على رجليها دون عكازات، فأشعر أن سرطان الدم الـمصابة به يتراجع أمام ابتسامتها وتنفسها العميق، لكن السرطان توحّش في جسدها منذ يومين، كنت أشعر بأن حرباً طاحنةً تدور داخلها بين مقالات محمد والـمرض، لـم أكن أتصوّر أن الكلـمات يمكن أن يكون لها تأثير بهذه القوة، كان يجب أن تموت سالي قبل سنة والطبيب يستغرب مقاومتها الـمفاجئة، شكراً لأنك ساعدتني في تأخير موت سالي، سالي تموت الآن، الطبيب يؤكد ذلك، هو الآن في غرفتها، شكراً لك محمد عفواً أقصد زياد

زياد خداش
الخميس 27/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع