مع برهوم البلشفي في يومياته



"هذه اليوميات شرفة تاريخية نطل منها على مسيرة أناس سبحوا ضد التيار وتحدوا العاصفة.. فسجلوا تاريخا مشرّفا نعتز به.. فبمثل هؤلاء يشق شعبنا درب الآلام لقهر الليل واجتراح الفجر الطالع حتما".
بهذه الكلمات قيّم المربّي فتحي فوراني كتاب السيرة الذي نحن بصدده في هذا المقال: كتاب "يوميات برهوم البلشفي" الذي اعدّه ابن ابراهيم تركي الدكتور خالد تركي وصدر عن دار رؤى للترجمة والنشر في حيفا هذا العام 2008.
كانت فصول هذا الكتاب قد صدرت مسلسلة في جريدة "الاتحاد" اسبوعيا الى ان تكاملت السيرة ولم تنته وذلك لأن ما ذكر فيها من سيرة الاب ابراهيم المكنّى برهوم البلشفي هو مختارات قليلة من مسيرة كانت عامرة بالكفاح المتواصل والجهود التي لا تعرف الكلل ولا الخوف في مواجهة قوى الظلام التي تلاحق شعبنا في مختلف المناسبات.
* اسلوب الكاتب: اعتاد الناس ان يكتبوا سيرهم بأنفسهم فتأتي كتابتهم حميمية صادقة لأنها تأتي كشهادة حية ومن مصدر اول عاش الاحداث وعانى ما عاناه خلال حياته. وحياة كل الناس لا تسير على وتيرة واحدة بل تعترضها العقبات والصعود والهبوط والتعثر هنا وهناك. اما عندما يكتب انسان آخر سيرة اب او صديق او قائد فهو انما يكتب بشكل انتقائي لأن ما قد يراه صاحب السيرة مهما، قد لا يوافقه كاتب سيرته على تقييمه، والعكس بالعكس. فالكاتب الدكتور خالد ليس انسانا ذا اختصاص في كتابة السير ومع ذلك فقد نجح في كتابة ترجمة حياة والده، بطل هذه السيرة بشكل انتقائي واسلوب حماسي. لذلك نجده في نهاية كل فصل يقف متأملا الحدث الذي وثّقه ليستنتج منه امورا يعتقد انه من الضروري تأكيدها وابراز الهام والحكمة من وراء سردها.
اقول "اسلوب حماسي" لأن هذا الابن الدكتور خالد لديه اعتزاز كبير بمواقف والده برهوم البلشفي، ولأنه اراد ان تكون هذه الحكايات التي يسردها درسا هاما يتعلم منه الشباب، خاصة ممن ينتمون الى صفوف الشبيبة الشيوعية وما مرّ عليها من قضايا ومشاكل قد تواجه شبيبة هذا الحزب حتى في ايامنا الراهنة. فمن عانى على جلده قضايا هامة شبيهة بما ورد سرده في هذه الذكريات لا يمكن الا ان يسردها تفصيلا من باب الاعتزاز بمواقفه والصعوبات التي واجهها واختبرها جيدا وعانى منها ما عاناه عندما كان عضوا في شبيبة الحزب الشيوعي الاسرائيلي.
تأتي جميع حكايات هذه السيرة على وتيرة واحدة، حتى ان الفصول، فصول النضال التي يأتي على ذكرها تكاد تكون متشابهة من حيث النتيجة لولا تتبدل المواقف والاماكن والزمن في تسلسل الاحداث. ان لغة الكتاب لغة بسيطة وسهلة جدا لا تعقيد فيها تكاد تشبه كثيرا لغة الصحافة الشيوعية المستعملة في صحافة الحزب الشيوعي الاسرائيلي وليس فيها أي اثر لا للبلاغة ولا للفنيّة. ومع ذلك فهي واردة بطريقة مشوقة للغاية حتى انني عندما قرأت هذه اليوميات لم اترك الكتاب جانبا قبل ان آتي على آخره، في قراءتي الاولى السريعة او في قراءتي الثانية المتفحصة. هذه البساطة وهذا الحماس لتوثيق تاريخ شخصية برهوم البلشفي ودوره في صفوف الشبيبة الشيوعية وفي صفوف رفاق الحزب القدامى، هي التي لفتت اهتمام القراء الذين قرأوا هذه السيرة وطالبوا الكاتب الدكتور تركي ان يجمعها في كتاب واحد يحمل اسم "يوميات برهوم البلشفي" لأن فيها دروسا هامة ونهجا نرجو ان ينهجه جميع من ينتمي الى الحزب او الى الشبيبة الشيوعية. ولذلك فان طباعة هذه السيرة جاءت تلبية لالحاح الكثيرين الذين قرأوا السلسلة في جريدة الاتحاد وطالبوا الكاتب ان يهتم بجمعها واخراجها في هذا الكتاب. لذا فنحن نشكره كما شكره ويشكره من قرأ فصولا من هذه الذكريات فأعجبته وطالب باخراج الكتاب الى سوق الكتب.
* مواقف مشرّفة: جميع الروايات الموثقة في هذه اليوميات هي مختارات من العديد من الروايات التي عاشها بطلها برهوم البلشفي وهي منتقاة بشكل حذر بحيث تصل القلوب بدون استئذان. هذا الامر يذكرنا بالمثل القائل: اذا صرخت فسوف يسمعك الجميع ولكن اذا قلت كلاما دافئا فسوف يدخل كلامك شغاف القلوب فيكون لها وقع جميع لا يمكن ان يمحى او يزول من الذاكرة، وما اختاره ابن صاحب السيرة كان مجموعة من الحكايات الجميلة التي كتبت بصورة هزلية احيانا وماجنة فكاهية احيانا ومثيرة في آن واحد.
يعتز بطل هذه السيرة بمواقف رفاقه الحزبيين وقادة الحزب وهو مستعد للتضحية معهم ومن اجلهم حتى الموت! ولأنه تعلّم كما تعلّموا لعبة الدمقراطية لذلك فانه يؤكد انهم تعلموا كيف يواجهون عصابات الحكومات الاسرائيلية بالمظاهرات والشعارات المشروعة ولكن ليس بقوة الذراع! وهو يعتز بهم عندما يقتبس من احد اناشيد الشيوعيين البيتين التاليين في ص-34 وهذا نصهما (بقلم الشاعر غسان مطر الفلسطيني المقيم في لبنان حاليا):

"بكم ستغير الدنيا ويسمع صوتنا القدر
بكم نبني الغد الأجلى بكم نمضي وننتصر"

ولما كان برهوم البلشفي قد تقدمت به السن فاكتسب خبرات كثيرة في الحياة فان المؤلف كاتب السيرة حاول جاهدا نقل بعض الحكايات عن الوالد برهوم لتكون عبرة لمن يعتبر من رفاق الشبيبة ومن الشباب خارج هذا التنظيم. فاذا ما قرأوا هذه الحكايات، فانهم سوف يتعلمون منها دروسا تفيدهم في حياتهم ونضالهم الوطني والقومي المشروع. فالشباب حيث هو من طبعه الحماس والاندفاع، لذلك يقول في ص-35: "كان على الرفاق التمتع بهدوء وببرود الاعصاب، حيث كان عليهم تفويت أي استفزاز في فترة الانتخابات البلدية لأن يوم الاقتراع كان على الابواب.. تلقت جميع خلايا الحزب والشبيبة والاصدقاء والناشطين الميدانيين توجيهات واضحة، تطلب منهم، عدم الرد على أي استفزاز يقوم به عسس السلطة خاصة يوم الاقتراع نفسه"..
بالرغم من هذه التوجيهات فقد كان برهوم بطلا في ساحات الشجار مع اوساط اليمين لا يخشى العواقب بسبب ما كان لديه من قوة جسدية. ان اهم ما يعتز به أي رفيق في صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي هو كون هذا الحزب عربيا – يهوديا، وهو يؤكد دور الرفاق الشيوعيين اليهود في كل مناسبة، ثم انه يركز على النشاط السياسي الكفاحي المشترك للرفاق اليهود حتى في القضايا الاسلامية، فالرفيقة بنينا فاينهوز كانت اول من حث الرفاق وغير الرفاق المسلمين على تأسيس جمعية تُعنى بأمور ابناء الطائفة الاسلامية من اجل منع التطاول على مقدسات العرب المسلمين  ومن اجل منع سلب الاراضي التابعة للوقف الاسلامي وتحويلها لخدمة المؤسسة الحاكمة. وهكذا كانت هذه الرفيقة وراء تأسيس اول جمعية تعنى بشؤون ابناء الطائفة الاسلامية في حيفا وهم علي عاشور، عصام العباسي، ذيب عابدي، فتحي فوراني، سميح القاسم، عباس زين الدين، عبد عابدي، ابراهيم الفحماوي وزاهي كركبي.
في مكان آخر في ص-46 يؤكد المؤلف اهمية الدور الذي كان يلعبه القادمون الجدد من يهود العراق، وكان اكثرهم من المثقفين القادمين الجدد الذين لم يكونوا بعيدين عن خط الحزب السياسي ونهجه الأممي اليساري.
يذكرني هذا الفكر بموقف حصل معنا ابان دراستنا في الجامعة العبرية في القدس، ففي عام 1955 وكنت في السنة الثانية من دراستي، فقد قررت وزارة المعارف رفع القسط الدراسي على الطلاب من 125 ليرة الى 250 ليرة، عندها اعلنت نقابة الطلاب العامة الاضراب ودعينا الى مسيرة في شارع اللنبي حيث انتهت هذه المسيرة باضراب امام مبنى الوكالة اليهودية حيث مكتب رئيس الحكومة دفيد بن غوريون آنذاك. ولما كنا في وسط المظاهرة مع المتظاهرين فقد توجه الينا احد الطلاب اليهود العراقيين القياديين في نقابة الطلاب كي نقول كلمتنا واحتجاجنا ضد رفع القسط الدراسي ومن اجل تبيان وحدة الطلاب يهود وعربا. أخذت مكبّر الصوت والقيت كلمة نالت استحسان جميع الطلاب ما عدا جماعة حيروت والصهيونيين العموميين الذين هتفوا تجاهنا صارخين اذهبوا لعبد الناصر وهناك تكلموا بالعربية. فما كان من الطلاب اليهود الشرقيين الا ان اشتبكوا معهم في "طوشة كبيرة" هزم فيها جماعة اليمين.
ينبّه المؤلف الى نقابة العمال العامة التي كانت يهودية وصهيونية ولما طُلب من العمال العرب ان ينتظموا ضمن صفوفها كان المطلب الذي رفعه القادة الشيوعيون تغيير تسمية هذه النقابة لتصبح النقابة العامة للعمال، وهكذا كان هذا المكسب حيث سمح للعمال العرب ان ينتظموا ضمن صفوف هذه النقابة التي من المفروض ان تدافع عن حقوق الطبقة العاملة وذلك عام 1953.
الا ان التغيير الجذري استغرق سبع سنوات اخرى حتى عام 1960 عندما اصبح العمال العرب متساوي الحقوق مع اخوانهم اليهود من الناحية التنظيمية ومن ناحية حقوق العمل.
* جهاز الشين بيت وفصل المعلمين: كان جهاز تعيين وفصل المعلمين في كافة المدارس العربية يخضع لرقابة اجهزة الامن الاسرائيلية، حتى ان اعوان السلطة من المعلمين والاهالي وابناء المتعاونين كانوا يساهمون في الفساد على المعلمين الدمقراطيين والشيوعيين الشرفاء، ولذلك كانت ملاحقات المعلمين تصل حد فصل المعلم من وظيفته بشتى الحجج، ففي عام 1957 شهدت ساحات المدارس فصل مجموعة من خيرة المعلمين الشرفاء امثال نمر مرقس، الياس دلة، عيسى لوباني وابراهيم انطونيوس. وفي عام 1960 جاء دور الرفيق احمد خطيب مدير مدرسة المكر الابتدائية الذي فصل بسبب انتمائه للحزب الشيوعي الاسرائيلي. وقد حاول هذا الجهاز فصلي من العمل بحجة ان كتاباتي في مجلة التربية التي كنت اصدرها للمعلمين مقابل مجلة صدى التربية التابعة لنقابة المعلمين – الهستدروت. ولكن لما كنت احمل اللقب الثاني في التاريخ العام والشرق الاوسط وشهادة تربية فقد فشلت محاولات مدير المعارف العام يوسيف غديش الذي كان رئيس بلدية عكا سابقا لأنه بموجب قانون خاص سنته الكنيست فانه من يحمل لقبا جامعيا وشهادة تربية فمن حقه ان يحصل على رخصة تعليم. وهكذا وبتدخل من ادارة الجامعة العبرية ويعقوب حزان الذي كان رئيسا للجنة الامن والخارجية في الكنيست مندوبا عن حزب مبام اليساري وعشرات العرائض التي وقّعها آلاف العمال دعما لموقفي، فقد فشل يوسيف غديش وجهاز الامن في فصلي وأبعد يوسيف غديش من منصبه كمدير عام لدائرة المعارف العربية، هذه الامور يوثقها الدكتور خالد تركي ابن برهوم البلشفي في هذه المسيرة.
* برهوم البلشفي والفن: خصص الدكتور خالد فصلا خاصا لدور الحزب في تطوير فن الانشاد في الوسط العربي، حيث يذكر دور فريق الطليعة الناصري بادارة الفنان الموسيقار ميشيل دارملكيان ودور الرفاق والاخوة من عائلة عبود نهيل وسلوى ونقولا ونعيم وكان الرفيق الاستاذ حنا ابو حنا يكتب معظم كلمات الاناشيد التي ظلت خالدة حتى اليوم، منها نشيد المرأة التي كان لها دور عظيم ومكانة كبيرة ومحترمة في فرقة الطليعة وهذا نصه ص-111:

"إنهضي وانبذي القيود
انما انتِ للوجود
نوره الباهر السنيّ
يا ابنة العالم الجديد
حطّمي ذلة العبيد
أدركي العالم الهني".


كانت هذه الفرقة تحيي المهرجانات والمؤتمرات التي كان يقيمها الحزب بأناشيده الثورية والوطنية المحلية والعالمية. فقد ظهرت هذه الفرقة في العديد من عواصم العالم مثل موسكو ووارسو وبوخارست ويذكر برهوم انها حازت على الجائزة الثانية للانشاد في بوخارست وموسكو في سنوات الخمسين من القرن الماضي.
كما كتب الاستاذ الرفيق حنا ابو حنا نشيدا آخر اوله ص-113:


"ظلاّم يا ظلاّم نظامكم ما يدوم
هذي شعوب الارض هبّت على الظّلوم
كالعاصف الصخاب تجتاحكم كالنار
تقضي على الظلم والاستعمار"


كان لحن بعض هذه الاناشيد روسيًّا مما جعل القادمين الجدد الروس ينضمون الى صفوف المنشدين لأن النشيد حتى باللغة العربية كان يذكرهم بماضيهم المجيد في ظل الشيوعية السوفييتية من هذه الاناشيد نذكر مطلعا آخر  ص-114


"بلادي ترى أعود أرى – ربوع الحِمى ارض هواي
تراني اعود فعبر الحدود – دياري ومهد صباي
لا لن يطول بعادي – وسوف أبصر عودي
نعم سأعود وتفنى الحدود – وسوف اراك حماي"!


من اعضاء جوقة الطليعة يذكر المؤلف المجموعات التالية ص- 115-115: 1- سوبرانو: عفاف ذيب، سلوى عبود، هنية، شومر، هناء خوري ايفون خوري وسلمى شومر. 2- التسو: وردة شومر، اوديت نمر، نهيل عبود، جيهان خبيص، اخلاص وفيكتوريا ذيب. 3- بيس: بشارة معمر، شوقي، باسم جبران، ابراهيم ابو نوفل وجريس شومر. 4- مينور: جميل عمران، سامي بدين، جريس شومر، رياض صباغ، سليم جبيلي وكامل خوري.
ويضيف ان من اجمل الاناشيد التي اُنشدت وحفظت عن ظهر قلب كان نشيد الشباب الدمقراطي وهذا نص مطلعه ص-117:


"نحن شدنا المعالي – وسنبني حياة السلام
نحن اُسد النضال – وحّدتنا الاماني العظام
فشباب البلاد – همُ رمز الجهاد
اشدوا وشيدوا – يحلو النشيد
نحن لحن الهنا!"


في آخر هذه السيرة يركز المؤلف مجموعة من الصور التذكارية لبرهوم البلشفي ومجموعة من الرفاق الذين كانت علاقات طيبة تربطه بهم ومنهم من كانوا في صفوف الحزب الشيوعي.
اخيرا، اعتقد جازما ان هذه السيرة المجيدة وثقت امورا كثيرة وصفحات ناصعة من نضال جماهير شعبنا بقيادة رفاق الحزب الشيوعي الواعين عندما كان شعبنا قد فقد قادته الذين هجّروا الى الخارج ليتحولوا الى لاجئين ما بين ليلة وضحاها عام النكبة، وراحوا يقبعون في خيام الذل والمسكنة منتظرين ان يصحو الضمير العالمي من اجل ضمان حق عودتهم الى ديارهم ووطنهم، ومن اجل قيام الدولة الفلسطينية العتيدة.
كذلك اؤكد ان قراءة هذا الكتاب مهمة لاجيال الشباب بغض النظر عن انتمائهم السياسي و/او الحزبي لأن فيه دروسا في النضال الوطني الحضاري الذي نحتاجه جميعا كمواطنين عرب في هذه البلاد ولأن فيه توعية هامة للفكر الموضوعي والمتزن والذي يجب ان يتبناه جميع قادة شعبنا الحزبيين وغير الحزبيين.
فيا ايها الدكتور المحترم: اننا نشدّ على يديك ونشكرك على هذه المهمة التي قمت بها خير قيام، لك الحياة والصحيح في كل ما تعمل.

(كفر ياسيف)

د. بطرس دلة
السبت 29/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع