(بمناسبة مرور 32 عاما على يوم الارض الخالد)

 حين بدأ مختار القرية ياسر بإلقاء "خطبته العصماء"، كعادته ليلة بدء موسم الحصاد، من كل عام، كان يتوسط "الديوان" في مكانه المخصص من المجلس :
- اليوم قبيل الظهر، قمت بزيارة خاطفة إلى "مرج الذهب" حيث عاينت موقع الحصاد هناك، فوجدت السنابل ذهبا إبريزا. ولكي أتأكد أكثر، جمعت عيّنات من السنابل، في غير موضع، لفحصها عن كثب، فتبيّن لي أنها ناضجة "عز الطلب" قد حان أوان حصادها، وأنها لفي شوق إليكم، تنتظر سواعدكم القوية وعزيمتكم الأبية. ها هو الموسم قد أقبل وهو يبتسم لكم، فأبشروا!
تعلمون أننا في شهر أيار، فيه يقول المثل: "في شهر أيار احمل منجلك وغار"! غدا في الصباح الباكر، تكون الغارة على "مرج الذهب"!
وقبل أن يتم المختار كلامه، قاطعه نفر من أفراد مجموعة الحصّادين هاتفين :
- سوف نحصدهم، سوف نحصدهم، أبشر يا مختار!
- إن كان زرعك استوى بادر واحصده! أعلن آخر.
- "إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها"! أعلن ثالث. في تلك الأثناء، كانت لغة العيون وحدها هي التي تتكلم، إذا ما التقت بعضها ببعض، وبالنظرات فقط.
وتابع المختار كلامه قائلا :
- اعلموا أن العمل في الأرض هو نوع من العبادة، تذّكروا أن الأرض هي العرض، ونحن حين نصونها ونحميها، إنما نصون أعراضنا ونحميها. إن تمسكنا بالأرض يعني تمسكنا بالحياة، ولا تنسوا أن الأرض للذي يفلحها.
- بأرواحنا نحميها وبدمائنا نفديها ما حيينا، ردّد أفراد المجموعة وردّد معهم الحضور.
- جهّزوا أنفسكم جيدا، استعدوا وأعدوا ما استطعتم من العدة ؛ مما تحتاجونه من أدوات الحصاد، ولوازم الغذاء والماء. ولا تنسوا الأصيلة لكل طارئ، فقد تحتاجونها. إلى اللقاء غدا باكرا في "مرج الذهب". أنهى المختار كلامه.
صوّر المختار المشهد أمامهم، كأنما هم مقبلون على معركة حقيقية، سوف تدور رحاها هناك في "مرج الذهب".
مع طلائع الفجر الأولى، تبدأ الانطلاقة إلى "مرج الذهب" وفق الخطة المرسومة، وعلى وقع الأنغام المنبعثة، من أجراس قطعان الماشية المرحة وهي في طريقها إلى الحقول، لتلتقط السنابل من خلف الحصّادين. ويختلط رنين الأجراس مع زقزقة الطيور عند انبلاج الفجر، في تناغم مع سحر الطبيعة لتعزف ترانيم الصباح أعذب سيمفونية، ابتهاجا وترحيبا بمقدم موسم الحصاد وتأكيدا على التواصل الدائم بين الإنسان والطبيعة.
ما أن تستيقظ الشمس من مرقدها، حتى يكون أفراد المجموعة، قد شارفوا على محطة استراحتهم الأولى، فيها ينالون قسطا من الراحة، ويرتشفون كأسا من الشاي الصباحي المفضل، الشاي المعطّر بالنعناع.
وقبل أن يبدأ الفتور بالتسلل إلى أبدانهم، تكون "الغزالة" قد بدأت تتهادى أمامهم وهي ترف بقرونها الذهبية مداعبة، فتغمرهم بأشعتها لتنعش أجسادهم القوية وتمنحهم الفرحة والسعادة. إذ ذاك ينهض كل واحد فيهم، ثانية، بعد أن يكون قد جدّد نشاطه واسترد عافيته، إلى منجله، مستأنفا العمل من جديد.
مع انتصاف النهار، يصل المختار ياسر "ليشق" على الحصّادين، ويتفقد أحوالهم محييا:
- "صح بدنهم"! كيف الهمة ؟ خلوا الهمة قوية! شدوا حيلكم! يطلقها المختار مدوية، فيردّد الوادي القريب صداها، وهو يشطر، طولا، تلك القرية الوادعة وأهلها إلى شطرين.
- "بدنه يسلمه"! يردون التحية بمثلها وبصوت واحد، كأنهم جوقة واحدة.
ويتكرر المشهد ذاته، في كل مرة يأتي المختار إلى هناك. وحين يقف على طرف الحقل الممتد إلى حافة الوادي، لا بل إلى آخر المدى، كان يكبر "مرج الذهب" في عينيه، ليصبح عرضه ممتدا من ساحل البحر غربا إلى ضفة النهر شرقا.
في هذه الأثناء، يكون الموعد قد حان لاستراحة قصيرة أخرى، وما هي إلا لحظات، حتى تتحلّق حول المختار، مجموعة من السواعد المفتولة العضلات، وقد اشتاقت إلى منجلها، تماما مثلما هي السنابل في شوقها إلى حاصدها. وقبل أن يغادرهم يسألهم عن الصحة والعافية، للاطمئنان عليهم أكثر وأكثر، وما إذا كان ينقصهم أي شيء، من ماء وغذاء، أو لوازم الحصاد.
بعد أن يقضي بمعيتهم بضع سويعات، يوصيهم خيرا بإتقان العمل، ملمحا إلى أنه سوف يضاعف الأجر لمن يحسن عمله، فجزاء الإحسان لا يكون إلا بمثله. ثم يغادرهم وهو مطمئن البال، وفي أفضل حال، بينما أمارات السعادة بادية عليه لا تكاد تفارق محياه، وقلبه عامر بفرح غامر، على أمل أن تأتي الغلة مثلما تمنى، وأن يكون حساب البيدر مطابقا لحساب الحقل. ثم يمضي في طريقه عائدا من حيث أتى، بعد أن يكون قد اطمأن على المجموعة فردا فردا، وعلى رزقه بأنه في أيد أمينة، وأن كل شيء على ما يرام، وعال العال، وهو يردد مخاطبا نفسه: عمار يا بلدنا عمار!
وحين تجمح "الغزالة" تُرى وهي تعلو وتعلو مسرعة لتتوسط السماء، معلنة عن موعد استراحة الغذاء. وفيما يستعد أفراد المجموعة للهجوم على الزاد البسيط أمامهم، يلحظون عن يمينهم وجه غراب، قد أتى من وراء البحار وحطّ في معسكر الانتداب، ثم راح يمعن في إزعاج القرية، بكل ما يعكّر عليها صفو حياتها، كلما خفق بجناحيه أو حرّك دورياته فرادى وجماعات، وهي تكاد تحرث الأرض حرثا، وتنهب الأرض نهبا، فتهيج الغبار تحت إطارات عرباتها، لتصل عنان السماء. وعن يسارهم يتأملون، مشدوهين، مجموعة من الطيور المهاجرة الغريبة، حطت في أطراف القرية، مهدّدة مصدر رزق الفلاحين الوحيد، وأمل حياتهم. وهي توشك أن تطبق عليهم من كل صوب وحدب، وتضيق الخناق عليهم، تماما كما يفعل الحيوان المفترس حين يجهز على فريسته، لكنهم يتجرّعون المر صابرين، وهم مصممون على رفض هذا الضيم، مهما طال الزمن أو قصر!
فجأة يُسمع أبو العبد "الألماني" وهو يقول: "الأسى لا يُنتسى"! الوطن "بدو رجالو وإحنا رجالو" !
- عين على الحصاد! يرد أبو الأمين "الروسي".
- وإصبع على الزناد! يجيب أبو السعيد "ابن البلد".
غير أن أكثر ما كان يلفت نظرهم، دوريات للجيش، كانت تُرى أضواؤها في "عز الليل"، كأنها تنادي، ولم تكن لتتأخر عن موعدها. بشكل منتظم وفي الزمان والمكان المحددين، كانت تمر على مرأى ومسمع منهم، كعادتها في كل يوم، تأتي لتتفقد المكان خشية أن يقع ما لا تحمد عقباه. وحين كان يُسأل المختار من قبل أفراد الدورية، من حين لآخر، عن فرقة الحصّادين، كان يجيبهم كالمعتاد دائما: من المنزل إلى الحقل وبالعكس، لا أكثر ولا أقل. بالنهار حصاد وبالليل رقاد "لا حس ولا نس"، إنهم لا يحسنون سوى القبض على منجل الحصاد وأحيانا يسهرون على البيدر!
هكذا كان يطمئنهم في كل مرة، لكنه يعود مقطبا شاردا مفكرا، في أمر هذا الغراب، القابع في عقر الدار!
بعد الظهر، كنت ترى أفراد المجموعة فرحين، يغمرهم النشاط والسرور والسعادة، متماسكين متحابين كأنهم جسد واحد، وروح واحدة، الكل ينظر إليهم بعين ملؤها الإعجاب والتقدير، لاسيما وهم ينشدون للحصاد، والغلة، والتعب والعرق، حين يدب النشاط فيهم من جديد. وبعد أن يكونوا قد استراحوا قليلا من عناء الحصاد، إذ كلما طالت لمت غمار، يبدأون بنقل ما جمعوه من غمائر الحصاد إلى البيدر، هناك في ساحة البيادر، حيث تنظّم القرية بيادرها، البيدر قرب البيدر.
 وعند المساء، يبدأ أفراد المجموعة تحضيراتهم على قدم وساق، كأنهم خلية نحل تعمل دون كلل أو ملل، استعدادا لسهرة المساء، كل يعمل في مجال اختصاصه، من تحضير لوجبة العشاء واحتفاء بالسامرين. ويطول السهر إلى ساعة متأخرة في جوف الليل، دون اكتراث لتعب النهار، "فتعب النهار يجلوه السهر في الليالي المقمرة"، يشجّع أحدهم الآخر. بين حديث عن الغلال، وعن أسعار القمح، وإمكانية تسويقه أو تخزينه، و"التنظير الفلاحي" وتحسين ظروف العمل وشروطه، وما إلى ذلك. ودرس في الدين يقدمه أبو العبد "المفتي" كما كان يحلو لهم أن ينادوه، وآخر يقدمه أبو الأمين عن "رأس المال"!
تحدثوا طويلا، ثم توقف أبو الأمين، ليخاطب أبا العبد وقد لمح النعاس يغالبه:
- أنت يا عبدو "عين نامت من خشية الله"!
فيرد عليه من فوره قائلا:
- إن نامت عيناي، فقلبي لن ينام. وأنت يا رفيق "عين باتت تحرس في سبيل الله" !
فيضحك الجميع بأعلى صوتهم، ثم يضمهم صوت واحد يصدر عن جوقة واحدة:
"لـ اطلع على راس الجبل
 واشرف على الوادي
 وأقول يا مرحبا
 نسّم هوا بلادي"
في مرحلة متقدمة، كنت تسمع الصخب والرقص والأغاني الشعبية من موال وزجل وعتابا، كانت أغنياتهم تتعالى :
 "يا ظريف الطول بحصد في صنام
 بضرب في المنجل طوال الليل ما ينام
 يا ظريف الطول وعَ البيدر درس
 حاطط في جماله سبعتاشر جرس"
ومن حين لآخر، كانت تتبعها لازمة تنبعث من كورس منتظم : "عليها الجيرة ما ننام الليلة" يرددونها مرة ومرتين ومرات. هكذا كانت تتصاعد أصواتهم، من جوف ليالي الصيف المنعشة.
ويعلو الصوت المتصاعد من المجموعة أكثر فأكثر، ليخترق قلب الليل، بينما تُسمع صيحاتهم من بعيد، في وسط القرية لا في أطرافها فحسب.
وهم لا يتحدثون بشيء سوى "عن حالهم وبالهم" أمام ضيوفهم من السامرين. عن موسم الحصاد وأيامه، ومعاناتهم اليومية في مواجهة الشمس الحارقة، حتى إذا ما انتصف الليل، ينفضّ عقد السامرين، ويتفرّق القوم كل إلى منزله فرحين مرحين بعد سهرة حافلة. وتنام العيون كلها إلا أعينهم هم، تلك الخلية الثلاثية لم تذق للنوم طعما حتى مطلع الفجر!
كانت المجموعة قد أمضت ليلتها السابقة، وهي تستكشف معالم الوادي وتتفحصه، بينما ليل الصمت يخيّم على المنطقة بأسرها، صمت مطبق يلف الجميع، باستثناء بعض نقيق الضفادع يشق سكون الليل الصارخ، وقد كانت تحاول إيقاظ الليل من سباته العميق، خشية منها أن يكون الزمن قد توقف، في تلك الأثناء!
والتقت الأعين بالأعين، والتمعت تحت جُنح الليل. وبينما كان جَناح الوقت يخفق ويخفق، نهضوا وتقدموا. ودون أي تأخير راحوا يحثون الخطى، وهم يتفحصون المكان جيدا، ثم نظروا إلى الجهات كافة وساروا. كانوا يتقدمون بثبات ورباطة جأش وهدوء حذر، يلفهم الليل بظلامه الدامس، والصمت من حولهم مطبق، لكنه ينذر بما سوف يعقبه، ولا يمزقه إلا عواء كلب استشعر فتنبه واستيقظ.
وبسرعة خاطفة كأنها لم تدخل في حساب الزمن، كان كل شيء قد أُنجز، وعاد كل سيف إلى غمده، وكأن شيئا لم يكن، وبقي السر مكتوما عميقا عميقا "لا من شاف ولا من دري" !
في اليوم الثاني، وقبل أن يفتح الفجر عينيه على الدنيا، استيقظ المختار على قرع مدوّ لباب داره، وبصوت مزّق سكون الفجر وهدوءه:
- انت يا مختار انت! افتخ الباب افتخ! فين عمالك فين؟
سأل أفراد من جيش الانتداب، بنبرة حادة، وهم يشهرون السلاح في وجهه، ثم اقتادوه أمامهم.
- ها هم أمامكم، نيام كما ترون! أجابهم المختار بهدوء تام.
كانت الأعين مغمضة لكنها لا تنام.
وغادر أفراد العسكر المكان إلى آخر، بحثا وتفتيشا، من ركن إلى ركن، ومن بيت إلى بيت.
قبيل الظهر، وصل المختار إلى "مرج الذهب"، وبعد أن حيّا أفراد المجموعة كمألوف عادته وعانقهم فردا فردا، ناولهم زوادة فيها وجبة دسمة، من كل ما لذ وطاب من غذاء وشراب، ثم أسرّ إليهم قائلا: في النهار حصاد، وفي الليل رقاد! وكانت ضحكتهم تتعالى مدوية لتسمع من بعيد، وهم يرددون معا: في النهار حصاد، وفي الليل رقاد!