تبرّعات الأغنياء ومسؤولية الدولة



*هكذا ينشأ مواطنون بدون إحساس بالقدرة السياسية والقدرة على التغيير*

 

كان ذلك نبأ صغيرًا في زاوية الاقتصاد، قررت مجموعة ايه.دي. بي. التي زادت أرباحها جدًا في 2007 أن تمنح مديريها زيادات مقدارها 36 مليون شاقل. فنوحي دانكنر (18 مليونا) وآفي فيشر وتسفي ليفنات (اللذان سيقتسمان الـ18 المليون الأخرى) أعلنوا علي الفور أنهم سيتبرعوا بثلث المبلغ لأهداف اجتماعية.
ما الذي يضايقك في ظاهر الأمر: هؤلاء ناس يرجع هذا المال أصلا لهم - إن ايه. دي. بي. شركة عامة، لكن الغالبية العظمى من أسهمها يملكها أولئك الناس حقًا، وعلى رأسهم دانكنر - وقد قرروا أن يدفعوا جزءًا صغيرًا منه لأنفسهم كأرباح، وتبرعوا كذلك بالثلث لأهداف اجتماعية. ما المهم في أن يأخذ دانكنر، الذي تقدر ثروته بمليارات الشواقل، هذا المال كربح أو أن يبقيه في الشركة؛ فهذا المال له أصلا.
صحيح، ولهذا فالسؤال عكسي: ما الذي يثير حماسة دانكنر وشركائه ليقرروا أخذ ربح كهذا. هذا مالٌ لن يأكلوه إلى الأبد. لماذا يحتاجون إلى العنوان في الصحيفة، وإلى دهشة العيون التي لا داعي لها؟ الجواب  هو أنه سواء أكان ذلك عن إدراك أم لا، تقوي الطبقة العليا في إسرائيل بهذا القرار وأشباهه نظام القيم الذي يحفظها كطبقة عليا. فبلا نية سوء، لكن مع تبلد معتاد، يساعد هذا النظام على تقويض الأساس الذي يفترض أن تعمل الدولة بناء عليه. وكلما سقطت الدولة سارعت إلى الحلول محلها للتبرعات والصدقة - وبكل ما يحفظ النظام القائم الذي يعمل لمصلحتها. عندما يأخذ دانكنر إلى بيته زيادة تعادل 1,5 مليون شاقل في الشهر، حتى لو كان ذلك من ماله الخاص، فانه يسوغ بذلك هرمًا كاملا يبنى من تحته: مديرون لشركات عامة ليسوا ذوي أسهم، تشتق أجورهم في ظاهر الأمر من أجرته - فإذا كان رئيس ايه.دي.بي يجني ربحًا كهذا، فلماذا لا يحصل مديرٌ عام لبنك كبير أو رؤساء شركة دينامية لإدارة ملفات استثمار على نصف هذا الربح؟ إن رؤساء مجالس الشركات الذين ينتمون إلى نفس الدائرة، ويتولون بأنفسهم مناصب شبيهة في شركات أخرى، يوقّعون شروط الأجور الضخمة هذه لأنه يوجد هنا - في ظاهر الأمر -  مقياسٌ موضوعيٌ.
فوق دهشة العيون، ثمة هنا فصام بين أجر المسؤولين الكبار وبين النتائج الحقيقية للشركات. عندما تمحو البنوك مئات الملايين بسبب استثمارات انهارت في الخارج، أو عندما يتبين أن عبقرية الاستثمار نبعت من مد عالمي فقط، وتتقلص الملفات بعشرات الدرجات المئوية في يوم غائم، لا يطلب أحد بالمال أو حتى بتقليل الزيادات. هذه هي الألفية العليا وهذه أجرتها - وانظروا حتى نوحي والمال ماله يسلك هذا السلوك.
يأخذ الساسة بنفس سلم القيم: الخصخصة، والأقوياء يجب أن يصبحوا أقوى لأن العمل يصبح أفضل، وكل ما تسمعونه من المحافظين الجدد في العالم بأسره بزيادة التوابل الإسرائيلية المعروفة من قبيل استحق ذلك ولن أكون مغفلا .
يساعد كل هذا على تحلل الدولة من المسؤولية والقدرة. وعندئذ يحلّ أصحاب المال مكانها للإنقاذ والمساعدة فقط: فهم يعتنون بسكان الشمال، الذين انهارت أجهزتهم العامة زمن الحرب؛ ويجلون سكان سديروت، ويصلحون جهاز التعليم. وهكذا ينشأ هنا مواطنون ليس لديهم أدنى تصور عن الدولة كأداة ناجعة لتحسين حياتهم، وعلي ذلك لا يكون عندهم أيضًا إحساس بالقدرة السياسية والقدرة على التغيير.
إعتاد الساسة والصحفيون من آن لآخر التبشير بثورة اجتماعية آتية. فالفقراء سيحدّقون ببيوت الأغنياء في "سافيون"، وسيأتي قائد اجتماعي جديد بتغيير سياسي كاسح. لن يحدث هذا. لأن الثورة تحتاج إلى قدر كاف من الناس الذين يؤمنون بأنهم قادرون علي التغيير حقًا. لكن سكان بلدة نوح لا يعتقدون أنهم قادرون وبدل ذلك يقرأون الصحيفة، ويتلمظون، ويدعون الله أن يأتي البطل للزيارة يومًا ما وأن يحدث لهم شيء ما.

* صحافي ومعلق سياسي (عن "معاريف")

عوفر شيلح
السبت 5/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع