التداعيات الجنسية الاجتماعية في قصة "وحدها الصرخة تمزّق الظلام"



صدر مؤخرا للاديبة اسمهان خلايلة مجموعة قصصية تحت عنوان "وحدها الصرخة تمزق الظلام وقصص اخرى" حيث أهدتني الكاتبة مشكورة مجموعتها هذه، ولقد قرأت قصص الكتاب واعجبني فيها تلك الروح الشجاعة التي تتمتع بها الكاتبة لا سيما وانها تتعرض من خلال قصصها الى موضوعات حساسة في مجتمعنا الذي يعاني من آثار الكبت والقهر الذي تتعرض له المراة، بل احيانا اضطهادها في حياتها اليومية ووجودها الاجتماعي، ومما استرعى انتباهي لجوء الكاتبة الى القاء الضوء على هذه الجوانب المظلمة في مجتمعنا بنقلها رسالة انسانية بغيتها العمل على تحرير المرأة من قيود واغلال هذا التمييز القاتم الذي لا يلحق الضرر بالمجتمع فحسب، بل يتعداه الى بناء الاسرة وتكاملها.
ان اكثر قصص المجموعة التي لفتت انتباهي هي القصة الاولى في الكتاب التي تحمل عنوان "وحدها الصرخة تمزق الظلام" حيث تشكل المحور الاساسي في تناول وضع المرأة في مجتمعنا باعتبارها انسانة مضطهدة من  جانب اسرتها واخوتها، علاوة على تداعيات الجنس في سلوكيات الرجل تجاه المرأة، متخذا منها اداة لتمرير شهواته ورغباته الغريزية دون مراعاة الضمير والاخلاق الانسانية الكريمة التي تدعو اليها القيم والمثل العليا السائدة. وقد رأينا في هذه القصة سلوك الاخ الظالم "ناجي" تجاه اخته "مطيعة" والمصير الذي آلت اليه هذه الفتاة بفعل هذا الظلم النابع من شكوك الاخ بشرف اخته واتهامه اياها بتدنيس هذا الشرف وممارسة الرذيلة مع احد الرجال رغم عدم توافر الادلة الدامغة التي تثبت انحرافها الاخلاقي الذي اتخذه الاخ ذريعة لقتلها مع انه اجاز لنفسه انتهاك اعراض الآخرين واستباحة المحرمات مع فتيات ونساء اخريات لأنه كان يعتقد ان المرأة هي التي تغوي الرجل متهما اياها بأنها هي سبب اغواء الرجل وبذلك ففي رأيه ان المرأة هي التي تصنع العار لا الرجل.
وفي حالة الاخت "مطيعة" التي تعاني من الكبت، فان وضعها هو انعكاس للمجتمع بنظمه وقوانينه ومؤثراته وضغوطه يكبت المرأة فيعوق هذا الكبت نموها الفكري والنفسي، ويحول دون تحررها من السلبية والاعتماد على الآخرين، وتظل كالطفل في مراحله الاولى من النمو عاجزا عن الاستقلال والايجابية وحرية الفعل. لكنها تختلف عن الطفل في ان جسمها لا يكون طفلا صغيرا وانما يكون قد اصبح جسدا كبيرا ناضجا. ولعل هذا هو السبب في ان "مطيعة" هي فتاة كبيرة ناضجة في جسمها، اما نفسها وعقلها فلا تزال في مرحلة متخلفة من مراحل النمو، وهذا التخلف هو اهم سبب وراء معظم الانحرافات والمشاكل الاجتماعية او النفسية او الجنسية. ويتجلى ذلك في رمزية اسم "مطيعة" الذي يعبر عن خضوع وخنوع المرأة لأخيها الرجل في هذه القصة نظرا لعدم نضجها والذي هو السبب الرئيسي وراء معظم المشاكل، وهذا يظهر بوضوح ايضا في عدم نضج اخيها الاصغر "رشيد" الذي يحمل اسمه رمزية فيها مفارقة من حيث انه ليس رشيدا بأمور الحياة كما يتضح من النص التالي في القصة:
"يتمنى رشيد ان يفعل بعض البذاءة التي يقوم بها ناجي.. لم يعرف رشيد الكثير عن العالم الخارجي فقد ترك مقاعد الدراسة في بداية المرحلة الثانوية والتحق بالعمل في الصيانة في البيوت.. ولم يعرف الكثير عن الجنس ولا الحب حتى انه كان يجهل انه من الممكن ان تلد امرأة ولدا بحجمه الذي يكون فيه من الاسفل.. لا شك انهم يشقون بطنها لاستخراجه!!".
ومن الطريف ان اسم الاخ الاكبر في القصة "ناجي" يحمل في طياته رمزية ومفارقة في آن واحد، فهو ليس بناج من اثم الرذيلة والبذاءة، لكنه في الوقت ذاته ينجو بنفسه من الوقوع متلبسا في شر اعماله وممارسته الخيانة مع النساء الاخريات، الا انه لا ينجو من حالة الشك بانحراف اخته "مطيعة" ويقدم على قتلها انتقاما لـ"شرف العائلة" كما يصور له خياله واعتقاده الراسخ بذلك، وبهذا لن ينجو مستقبلا من عقاب العدالة المتربص له بالمرصاد.
وتظهر لنا هذه القصة مدى انغماس شباب اليوم بالجنس وأوهام الجنس في هذا المجتمع كما يتضح من تصرفات ومغامرات "ناجي" وقصصه عن هذه المغامرات التي تلهب خيال الاخ الاصغر "رشيد" عند سماعه لها بلسان اخيه المغامر:
"... وقصص ناجي العديدة مع الفتيات بل وبعض النساء المتزوجات اللاتي يتسلل اليهن ناجي في غياب الازواج كلها قصص يعرفها رشيد لأن ناجي يخبره بأدق التفاصيل ولطالما الهب خياله فشعر وكأنه عطش امام ينبوع عذب يغرف منه ناجي متى وكيفما شاء...".
وبالعودة الى عدم نضج الرجل والمرأة على حد سواء في هذه القصة نرى ان الرجل وإن كان اكثر حظا من المرأة في الحرية وفي فرض النضج الا انه يتعرض ايضا لضغوط اجتماعية تعرقل نضجه النفسي والعقلي، كما ان التفرقة الكبيرة بين الرجل والمرأة في المجتمع والضغوط الشديدة على المرأة تزيد من احساس الرجل بايجابيته فاذا بها تتحول الى مبالغة في السيطرة وميل الى الانانية والسادية (الرغبة في الايلام) وتزيد ايضا من احساس المرأة بسلبيتها لتصبح مبالغة في الخضوع والماسوشية (الرغبة في استشعار الالم). ان نظرة الرجل للمرأة في المجتمع كأداة للجنس كما تتجسد في هذه القصة، تتمثل في القول ان صفات الانوثة نتاج صناعي لوضع المرأة السفلي في المجتمع، وهذا ما يعكسه قول ناجي من ان "البنت والمرأة.. كل جنس النسوان لازم ليل نهار حبس في البيت فش واحدة طاهرة ولا في زلمة شريف..". وهذا القول على بساطته يفرز شيئا من احساس الذكر بذكورته والانثى بأنوثتها، ومعنى هذا الاحساس، وفرض اشباع الرغبة الجنسية، والظروف التي يحدث فيها هذا الاشباع، كل هذا يخضع للمجتمع من حولهما وما فيه من تقاليد وضغوط في البيت او في المجتمع.
واخيرا، فان تناولي لهذه القصة بالتحليل حصرا دون القصص الاخرى في المجموعة، يعود الى ان هذه القصة هي اقوى قصص المجموعة فكرة وموضوعا، بل انها تختصر وتلخص وضعا مأساويا للمرأة في ظروف اجتماعية معينة مع ما يعتري ذلك من نظرة دونية للمرأة بتشييء الرجل لها وجعلها اداة للاستغلال والقهر وسلبها الحرية الملتزمة في مجتمع ذكوري يتماهى مع الجنس باعتباره حكرا للرجل في تسلطه وسيطرته على المرأة دون اعتبار لكرامتها وبشريتها كمخلوق له نزعاته وميوله الانسانية الخاصة تعرف كيف تحافظ على نفسها وشرفها وذاتها رغم الحالات الكثيرة التي تنحرف فيها عن المسار العقلاني الذي يسعى دائما الى تأطير الاخلاق الانسانية الكريمة والكوابح الناجعة ضمن دائرة الاعتدال والمنطق، بعيدا عن الكبت، والظلم والقهر. ومن هنا كان موضوع قصص الكتاب وخاصة هذه القصة بمثابة صرخة ضد التعسف الواقع على المرأة في هذا المجتمع الذكوري الذي ما زال يعيش بذهنية التقاليد والعادات البائدة التي تكبل المرأة بقيود الماضي وقتامة الحاضر.
فللاديبة الكريمة الاخت اسمهان خلايلة أصدق التهاني بصدور كتابها هذا، راجين لها دوام التوفيق والعطاء والمزيد من الابداع الفكري والثقافي.

(كفر ياسيف)

د. منير توما *
الأثنين 7/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع