حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (12)



*في الصباح كان في الزيارة الضابط المسؤول عن مركز الاعتقال وكان كلما دخل غرفة يتصدى له الرفاق المسؤولون في هذه الغرف وعندما دخل الغرفة التي كنت فيها كان معي عدد من الرفاق وبينهم الرفيق بولس بولس من البعنة الذي كان سكرتيرا لفرع الشبيبة في البعنة في ذلك الوقت، انتقد امام الضابط بشدة هذا الاسلوب الوحشي الذي مورس ضدي في التحقيق، وطالب الرفيق بولس بأن يأخذوني حالا الى الطبيب، وفعلا في نفس اليوم اخذوني الى طبيب في مركز الشرطة في حيفا، ولكنه لم يفعل شيئا واعطاني بعض الحبوب المهدئة للوجع فقط. وعمليا كنت بين المعتقلين أكثر مّن مورس ضده اسلوب التعذيب الوحشي، وكنت في ذلك الوقت قد تجاوزت العشرين من العمر، ولم اكن الشاب الوحيد في هذا الجيل بل كان هناك عدد اخر من رفاق ام الفحم والناصرة، واذكر من بينهم منقذ زعبي الذي لم يتجاوز السابعة عشرة في ذلك الوقت وكذلك الرفاق من ام الفحم طيبي الذكر محمد علي محاميد "ابو علي" واحمد القاسم وكذلك امد الله في عمرهما محمد علي خالد "ابو خالد" وشفيع عباس*

حاول المحقق بكل اساليب الترغيب والترهيب، وعندما انهى كلامه قلت له ان لا حاجة لكل هذا وانا طبيعي جدا واني قلت كل ما اعرفه ولا يوجد ما يمكن ان اقوله اكثر من ذلك. وعندما وجدوا ان كل هذا لا يجدي نفعا بدأوا بأسلوب التعذيب البشع بالضرب الوحشي وعندها ربطوا قدمي وبدأوا بالضرب على قدمي وكان واحدا منهم قد ربط كتفي ايضا كي لا اتحرك وبدأت بالصياح والشتم، ولاسكاتي حاولوا وضع الكلسات التي كنت البسها منذ اعتقالي في فمي، وتصوروا رائحتها الكريهة.. وعندها "زي ما بقولوا"، جاءتني قوة غير قوتي فنفضت حالي من حلاوة الروح من بينهم فوقع الذي كان يربط كتفي على الارض، ولكن مقابل هذا ازداد الضرب على جميع انحاء جسدي وبدأوا بقلع شعر من شاربي والكيّ بأعقاب السجائر ولكن كل هذا لم يثنيني عن موقفي الذي اتخذته لنفسي، بعد هذا ادخلوني الى زنزانة لوحدي وقالوا للذي ادخلني الى الزنزانة بأن يحضّر غرفة الكهرباء من اجل تعذيبي بها، وفي هذه الاثناء شعر رفاقي ان غيابي طال حيث كان هذا الامر في ساعات المساء، فبدأوا بالخبط على ابواب الغرف وحضر ضابط مسؤول في تلك الليلة وطالبوه باحضاري حالا الى الغرفة التي كنت فيها مع عدد من الرفاق، عندها اضطروا الى اعادتي لغرفتي وبعد ان عدت بدأ الوضع يهدأ قليلا في الغرف. ومعروف في السجون والمعتقلات تجري عملية عد المعتقلين كل صباح، وفي الصباح كان في الزيارة الضابط المسؤول عن مركز الاعتقال وكان كلما دخل غرفة يتصدى له الرفاق المسؤولون في هذه الغرف وعندما دخل الغرفة التي كنت فيها كان معي عدد من الرفاق وبينهم الرفيق بولس بولس من البعنة الذي كان سكرتيرا لفرع الشبيبة في البعنة في ذلك الوقت، فانتقد امام الضابط بشدة هذا الاسلوب الوحشي الذي مورس ضدي في التحقيق، وقد بقيت في الفراش لم اقم كما هو متبع خلال مثل هذه الزيارة، وطالب الرفيق بولس بأن يأخذوني حالا الى الطبيب، وفعلا في نفس اليوم اخذوني الى طبيب في مركز الشرطة في حيفا، ولكنه لم يفعل شيئا فقط اعطاني بعض الحبوب المهدئة للوجع. وعمليا كنت بين المعتقلين أكثر مّن مورس ضده اسلوب التعذيب الوحشي، وكنت في ذلك الوقت قد تجاوزت العشرين من العمر، ولم اكن الشاب الوحيد في هذا الجيل بل كان هناك عدد اخر من رفاق ام الفحم والناصرة، واذكر من بينهم منقذ زعبي الذي لم يتجاوز السابعة عشرة في ذلك الوقت وكذلك الرفاق من ام الفحم طيبي الذكر محمد علي محاميد "ابو علي" واحمد القاسم وكذلك امد الله في عمرهما محمد علي خالد "ابو خالد" وشفيع عباس. وكان قد حكم على منقذ زعبي السجن مدة شهر ودفع غرامة بمبلغ خمسين ليرة على ما اذكر، وهو كان اصغر المعتقلين الذين تواجدوا في سجن الجلمة. وخلال هذه الفترة كانت قد بدأت جولات المحاكم العسكرية في عكا وكل يوم يأخذون دفعة من المعتقلين الى تلك المحاكم في مدينة عكا وكل دفعة تكون بين عشرة الى عشرين شخصا وكانت تصدر احكاما قاسية ضد عدد من المعتقلين، وفي 29\05\1958 دعيت مع عدد من المعتقلين للمثول امام المحكمة العسكرية ولكن وقبل دخولنا الى قاعة المحكمة وقف معنا طيب الذكر المحامي حنا نقارة وقال لنا ان هذه المحاكم هي محاكم صوَرية وقراراتها اصبحت جاهزة وموجودة في جارور الحاكم العسكري، ولذلك من الافضل لنا عدم الاعتراف بهذه المحكمة وصلاحياتها وكمواطنين في هذه الدولة من حقنا ان نطالب بأن نحاكم امام محكمة مدنية وليس محكمة عسكرية. كنت انا المتهم الاول في الفرقة التي ستقدم للمحاكمة في ذلك اليوم، وبناء على ذلك فانني سأكون اول الذين ستوجه لهم التهم في هذه المحكمة ضمن هذه الدفعة، وطبعا كنت قد حفظت عن ظهر قلب ما قاله لي المحامي حنا نقارة، وعندما دخلنا الى قاعة المحكمة واذا بجو ارهابي داخل المحكمة وعندما اخذنا مواقعنا في قاعة المحكمة واذا بشرطيين يقفان الى جانب كل متهم ولا توجد على صدرهما الارقام الشخصية التي يحملها كل شرطي، والهدف من هذا هو دب الرعب في قلوبنا، ولكن كل هذا لم يؤثر على موقفنا، وبصفتي المتهم الاول في الدفعة التي كانت معي فمن الطبيعي ان تبدأ محاكمتي اولا، وعلى هذا الاساس بدأ الحاكم بالحديث معي وقال لي: انت متهم بتهمتين الاولى هي عدم الانصياع لاوامر الضابط "تريفون" والثانية قذف الحجارة على رجال الشرطة، فما هو ردك على هذه التهم الموجهة ضدك؟ فأجبته بأنني لا اعترف بهذه التهم ولا بالذين يوجهون لي هذه التهم ولا اعترف بصلاحيات هذه المحكمة ولا بصلاحياتك كحاكم وأطالب ان احاكم امام محكمة مدنية اسوة بكل مواطن في هذه الدولة. وعمليا قلت كل ما وجهني به المحامي حنا نقارة، وخلال حديثي هذا كانا الشرطيين اللذين يقفان بجانبي يشدانني من اطرافي كي اتوقف عن الكلام، ولكني وبالرغم من كل هذا الاسلوب المشين الذي يستعملونه داخل قاعة المحكمة واصلت حديثي حتى النهاية، وعندها ثارت ثائرة الحاكم وطلب مني التوقف عن الكلام والجلوس في مكاني، وبعدها طلب احضار الشهود الذين سيشهدون ضدي، وقالوا انه بالاضافة لهذه التهم كان يهتف ايضا بحياة جمال عبد الناصر.
بعد تقديم هذه الشهادات المزورة بدأ الحاكم يكيل الكلام البذيء واللاأخلاقي ضدي وقال ايضا انه لو كان لديه الصلاحيات لقذف بي الى خارج حدود الدولة، وفي هذه الاثناء كان يتواجد في قاعة المحكمة المرحوم والدي والمرحومة الرفيقة تسيلا عيرم عضوة بلدية حيفا في ذلك الوقت وكذلك امد الله في عمرها الرفيقة حنة شتيرن مراسلة جريدة الحزب اليومية باللغة العبرية في ذلك الوقت "كول هعام"، وخلال اصدار الحكم ضدي حاول الحاكم بأسلوبه العنجهي تحريض الرفاق اليهود المتواجدين في قاعة المحكمة ضدي، ولكن ردهم كان مفحما للحاكم ولرجال الشرطة، حيث وقفت الرفيقتان وتوجهتا نحوي وقامتا بمصافحتي وتقبيلي ووقفتا الى جانبي وشدتا على يدي، وهذا كان افضل رد رفاقي على الحاكم. وعندما رأى هذا الموقف ثارت ثائرته اكثر واصدر حكمه الجائر ضدي وقال ان الحكم بالنسبة للتهمة الاولى هو السجن لسنتين ودفع مئتي ليرة او السجن مدة نصف سنة مقابل هذا المبلغ، والتهمة الثانية هي الحكم سنة سجن ومئتي ليرة او السجن لمدة نصف سنة. ثم قال: ماذا تطلب من المحكمة؟ فأجبته: قلت لك انني لا اعترف بهذه المحكمة ولا بصلاحياتك كحاكم واطالب المحاكمة امام محكمة مدنية. عندها قال حكمتك بالتهمتين والحكم متلاحق واحدة بعد الثانية اي ان الحكم كان ثلاث سنوات سجن واربعمئة ليرة او السجن لمدة سنة اضافية، وهذه عمليا كانت الذروة في هذه الاحكام الجائرة التي صدرت ضد متظاهري اول ايار.
في هذه الاثناء ازدادت حركة الاحتجاج بين الجماهير العربية ضد هذه الاحكام ومن اجل اطلاق سراح السجناء والمعتقلين، وكان الحزب يعمل بكل قوة من اجل تجنيد اكثر عدد من القوى بين الجماهير العربية واليهودية من اجل صد هذه الهجمة الشرسة على جماهيرنا العربية في هذه البلاد، وبمبادرة من الحزب الشيوعي تنادى عددا من رجالات العرب الوطنيين للالتقاء وللعمل بشكل مشترك من اجل صد هذا العدوان والبطش الذي تنتهجه السلطات ضد جماهير شعبنا، واعلنوا بوضوح ان شعبنا لم ولن يتخلى عن ابنائه المخلصين لقضية شعبهم، وعلى هذا الاساس دعوا لاقامة جبهة عربية لصد هذه الحملة الشرسة التي شنتها الحكومة على الجماهير العربية في هذه البلاد، واصدروا بيانا وقع عليه عددا من الشخصيات الوطنية العربية وفي مقدمتهم المرحوم يني يني رئيس مجلس كفرياسيف المحلي في ذلك الوقت. وقد صرح لجريدة "الاتحاد" عند صدور هذا البيان بقوله "ان الجبهة سترعى حقوق العرب وستتعاون مع الاحرار العرب واليهود المؤمنين بأغراضها". وبعد هذا البيان اقيمت لجنة تحضيرية من اجل عقد مؤتمر عام للجماهير العربية وكانت هذه اللجنة مكونة من السادة يني يني وطاهر الفاهوم والمحامي حنا نقارة واميل توما وشكري الخازن ونور الدين العباسي والمحامي جميل لبيب خوري والدكتور يوسف حداد ومنصور كردوش وحنا دلة وزهير حلاق ووالدي ابراهيم الاحمد وعدد اخر من الشخصيات الوطنية. وجاء في البيان الذي صدر بعد الاجتماع الذي عقدته اللجنة التحضيرية، ان المبادرين اقتنعوا بشكل مطلق بأن حملة حكومة بن غريون على جماهيرنا الهدف منها هو إخماد صوت الشعب العربي المطالب بحقوقه القومية واليومية، وان من واجب الشعب ان يصد هذه الحملة الشرسة بالتعاون مع القوى الديمقراطية اليهودية في هذه البلاد من اجل انقاذ المعتقلين والمنفيين ضحايا هذه الحملة المحمومة من قبل السلطة. وقد لاقى هذا البيان تأييدا واسعا في اوساط الجماهير العربية.
بعده عقدت عدة اجتماعات تحضيرية في مختلف المدن والقرى العربية من اجل عقد مؤتمر عام للجماهير العربية في داخل اسرائيل الهدف منه توحيد القوى من اجل صد هذا العدوان الغاشم على جماهير شعبنا وبعد هذه الاجتماعات الناجحة لتي عقدت رأت اللجنة التحضيرية التأييد الواسع الذي لاقته بين جماهير شعبنا وعلى هذا الاساس قررت عقد المؤتمر العام للجماهير العربية بتاريخ 6\7\1958 في مطعم ابو خريستو في مدينة عكا الساعة الثانية بعد الظهر وبعد اتخاذ هذا القرار التاريخي جن جنون السلطة وعملت بمختلف الاساليب للضغط على الشخصيات المبادرة لعقد المؤتمر ففرضت على قسم منهم اثبات الوجود وعلى قسماً آخر الاقامات الجبرية، وكان الهدف من كل هذا منع عقد المؤتمر، كما استعملت السلطة كل الاساليب المشينة والعنصرية واساليب الترغيب والترهيب واستطاعت بضغطها هذا ان يتراجع صاحب مطعم ابو خريستو وابلاغه المبادرين بعدم استطاعته من عقد المؤتمر في مطعمه، ولذلك تقرر نقل مكان عقده من هنا الى مقر النادي الثقافي الشعبي في ساحة الجرينة بمدينة عكا في التاريخ نفسه والساعة نفسها، ولكن دوائر السلطة بمختلف اجهزتها من اجهزة المخابرات واجهزة الحكم العسكري كلها كانت مجندة للعمل بمختلف السبل الدنيئة لافشال هذا المؤتمر التاريخي لجماهيرنا العربية في اسرائيل. ومن اجل تحقيق هدفهم فرضوا على المبادرين وفي مقدمتهم السيد يني يني وطار الفاهوم وجبور جبور وغيرهم من المبادرين الاقامات الجبرية في مدنهم وقراهم، وفكروا انهم بهذه الطريقة يستطيعون  افشال عقد المؤتمر، ولكنهم تفاجأوا عندما رأوا ان قيادة الجماهير العربية لا يمكن منعها، مهما كانت انواع الاساليب القذرة والعنصرية التي استعملتها السلطة، من عقد المؤتمر وولادة التنظيم الجديد ألا وهي الجبهة العربية، بعد كل هذه الاجراءات التعسفية التي مارستها السلطة رأى مسؤولوها ان النتائج جاءت عكس ما توقعوا حيث جاءهم بدل المؤتمر الواحد مؤتمران ولكن بتواصل وبتنسيق تام، فالمؤتمر الاول عقد في عكا كما كان مقررا شاركت فيه جميع القرى التي يسمح لها بالسفر الى عكا بدون تصريح، والثاني عقد في مدينة الناصرة وشاركت فيه جميع القرى والمدن التي يمكنها الذهاب الى الناصرة بدون تصريح..

(عرابة البطوف)
(يتبع)

توفيق كناعنة*
الثلاثاء 8/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع