عراق شارلتون هستون



في ربيع 2001، وخلال محاضرته التي افتتحت مركز الآداب الآسيوية والأفريقية في جامعة SOAS البريطانية، تحدّث الراحل إدوارد سعيد عن ظاهرة الجهل التي تعمّ شرائح واسعة من أبناء المجتمع الأمريكي، صغاره وكباره. ولقد ضرب المثل الأوّل في يافع عجز عن معرفة موقع إيطاليا على الخريطة، والمثل الثاني في شيخ (ولكن... أيّ شيخ!) تردّد برهة في تسمية دولة واحدة تشترك في الحدود مع العراق، قبل أن يحزم أمره ويقول: روسيا، ربما !
الراحل سعيد لم يذكر اسم الأمريكي اليافع، ولكنه منحنا بهجة معرفة هويّة الأمريكي الشيخ: كان ذاك شارلتون هستون (1923 ـ 2008)، نجم هوليود الشهير الذي رحل عن هذه الدنيا قبل أيام. تلك كانت واقعة مدهشة من أيّ راشد يعيش على هذه البسيطة، فكيف بفنّان سينمائي مخضرم مجرّب أوّلا؛ وبممثّل متوّج لعب دور النبيّ موسي في الفيلم الشهير الوصايا العشر، ثانيًا؟ ألم تزوّدنا سيرته الذاتية، التي صدرت سنة 1995 بعنوان في الحلبة ، بصفحات مستفيضة عن انغماسه الشديد في دراسة تاريخ الشرق الأوسط، بغية تقمّص الدور على أكمل وجه؟ وكيف أمكن له أن يدرس أيّ تفصيل في تاريخ المنطقة، دون معرفة جغرافية العراق؟ هل يعقل أنه لم يدرك أبدًا أنّ بلاد الرافدين، بلاد ما بين النهرين، هي نفسها العراق الحديث؟
ليس هذا فقط، ففي عام 1961 لعب هستون دورًا كبيرًا ثانيًا ذا صلة بالمنطقة، في الفيلم الفروسيّ السيد ، حين أدّى شخصية الفارس الإسباني الذي يخوض معركته الفاصلة الأخيرة وهو جثة هامدة. كان الدور بمثابة مزج بين الجسد الفروسي لدون كيخوته، والروح المقاتلة لأمير أندلسي، والدراما النفسية المشدودة لهاملت شكسبيري كما كتب هستون في سيرته. فهل درس تاريخ الأندلس آنذاك، بعمق واحترام كما ظلّ يؤكد؟ وإذا كان قد فعل، كيف فاته أنّ العراق صنو الأندلس؟ أخيرًا، في فيلم الخرطوم حيث لعب دور الجنرال البريطاني شارلز غوردون الذي يحاصر الزعيم الديني والوطني السوداني المهدي (لورانس أوليفييه)، كيف لم يصادف خريطة العراق وهو يغرق في تاريخ الحركات الصوفية الإسلامية كما يزعم؟
من جانب آخر، رحل هستون وهو مطلق الحماس للحزب الجمهوري، ولإعادة انتخاب جورج بوش (بعد حماسه الأوّل، في الرئاسة الأولى)، ولم يكن في الحماستين جديد علي سلوك عتيق، لولا سخريته من الذين كانوا يواصلون التنقيب عن أسلحة الدمار الشامل، بحثًا عن ذريعة لتبرير غزو العراق: مَن يعبأ بها الآن، تساءل بالابتسامة الصفراء الشهيرة، الهوليودية بامتياز. والحال أنه، خلال أطوار حشد/خداع الرأي العام حول وجود تلك الأسلحة، وجاهزية استخدامها الفوري، كاد أن يقسم بأغلظ الأيمان أنها موجودة، قاب قوسين أو أدني من بصره.
ولم يخفِ هستون، قطّ، آراءه المحافظة ـ اليمينية، التي لم تكن تخلو دائمًا من رواسب عنصرية أو مذهبية صريحة، هو الذي كان في قلب حركات الحقوق المدنية الأمريكية خلال الستينيات. لقد ترأس، طيلة سنوات، رابطة البندقية الوطنية NRA التي تدافع عن حقّ الأمريكي في حمل السلاح الثقيل، وليس مجرّد المسدس، للدفاع عن النفس. ولقد خاض في هذا الميدان غمار عشرات المعارك ضدّ كلّ وأيّ تشريع يحدّ من هذا الحقّ، وكانت أشرس جولاته ضدّ الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون. وبسبب فلسفته هذه، صار هستون عرضة لهجاء مرير من السينمائي الأمريكي مايكـل مور في الـشريط الشهير Bowling for Columbine، حين يضيق الممثل ذرعًا بأسئلة المخرج، فيقطع الحوار ويطرد الكاميرا.
وفي انتخابات الكونغرس لعام 1986 تبيّن للحزب الجمهوري أنّ الممثّل التوراتي والفارس الأندلسي والجنرال البريطاني، فضلا عن صاحب أدوار الكاردينال ريشليو ومارك أنتوني ومايكل أنجلو وتوماس مور وشرلوك هولمز...، هو أفضل المرشحين لمنصب السناتور عن ولاية كاليفورنيا. هذه، في نهاية الأمر، هي الولاية التي عبّدت الخطوة الأولي في درب رونالد ريغان إلي البيت الأبيض، ومن اليسير أن تفتح ذراعيها لأحد أمهر صانعي الشخصية اليانكية في هوليود (بعد سنوات سوف تمنح الولاية منصب الحاكم إلي أشهر مَنْ جسّد أدوار الغطرسة العسكرية الأمريكية: أرنولد شوارزنيغر). ملابسات غامضة، وصراعات حزبية داخلية علي الأرجح، حالت دون ترشيح هستون آنذاك، فاكتفى بالتصريح الشهير الذي أراد منه حفظ ماء الوجه: إنني أفضّل أداء دور السناتور، على أن أكون السناتور بلحمه وشحمه !
أخيرًا، مقالاته العديدة التي واصل كتابتها في أسبوعية National Review اليمينية، ظلّت تعكس انحياز هستون إلي الجانب العسكري في الشخصية الأمريكية، ودفاعه العصابيّ عن المهامّ التبشيرية الملقاة علي عاتق اليانكي جوّاب الآفاق . ولكنه، في أحد المقاطع المدهشة من سيرته الذاتية، كتب يقول: لقد رأيت في مارتن لوثر كنغ شخصية موسى، والحلم الذي راود كنغ لتحرير شعبه الأسود المعذّب هو وصايا الحقّ التي يجب أن نقف إلي جانبها. إنها وصايا عشر ضدّ العنصرية والإستعباد وإيقاظ أبشع ما رسخ في تراث العمّ سام من أمراض .
عجيب أنّ كاتب هذه الكلمات، التقيّة النقيّة الورعة، طبّل وزمّر لحروب بوش في أفغانستان والعراق، وأطبق جفنيه للمرّة الأخيرة وهو يظنّ أنّ روسيا جارة العراق!


* ناقد سوري (القدس العربي)

صبحي حديدي
الثلاثاء 15/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع