حكاية من بلدي
صفحات ناصعة من تاريخ الحزب الشيوعي



سكن في قلبها ، وارتسم طيفه في ذهنها ، وحُفرت صورته في مخيلتها ، وكانت العقبة الكأداء ان تنتقل من المدينة باضوائها الساطعة يتوفر فيها الماء والكهرباء، وبيوتها الجميلة، وشوارعها المعبدة النظيفة وجلبة السوق والحوانيت العامرة نوادي السمر واللهو ، ودور السينما ، الى القرية بظلامها الدامس في الليل ، لا ماء ولا كهرباء ، بأزقتها الترابية تنبعث منها روائح آسنة من سلوح المواشي وروث البهائم وانتشار الحظائر في الاحياء ، وبين البيوت القديمة المتداعية ومن الطين .
طال الغياب وظل في القرية يقود فرعه ورفاقه لم يخضع ولم يخنع . حرّقها النوى وهدّها الفراق، التهب الشوق والحنين ، تأججت المشاعر وجاشت في الصدور ، التهبت النار في الاحشاء واشتعلت في القلب والعروق تكسرت العقبات ، وتحطمت العوائق  وتاقت انتقلت الى القرية وحملت الجرة على رأسها ، وقطعت المسارب واخترقت الصبار وانتشلت الماء من البئر البعيدة عن البيت جمعت الحطب واوقدت الطابون وخبزت الخبز . استقرا وعاشا حياة رتيبة  هنيئة في وداعَة ووئام كانت ارادته قوية ، وعزيمته فولاذية . لا يملك في القرية من الارض شبرا واحدا امتلك ارادة وفكرا قوة ومطرقة . عامل بناء في مهنته شيوعيا اصيلا كدّ وجدّ افلح في كدِّه ، ونجح في جدّه . زهت له الايام شق طريقه بنفسه عصاميا عمَّر بيتا على الطراز الحديث وكان في اجتهاده مثلا يحتذى . في حين كانت البيوت في القرية قديمة متداعية ومن طين . بنى عائلة وانشأها ورعاها . وفَّر لها المتطلبات من ضروريات وكماليات اكلوا ما طاب لهم من الطعام ، وشربوا ما لذ لهم من الشراب لبسوا من الفاخر النفيس ، وانتعلوا من الغالي الثمين . اكتسب تقديرا بين الرفاق واحتراما بين الناس وصار بيته الجديد محجا يؤمه في يوم السبت المعارف والاصدقاء ويعج بالرفاق والزملاء كخلية النحل ، مضيافا كريما ان كثروا وان قلوا.
جاءت حرب حزيران سنة 1967 اصابته بسهامها ورمته بنبالها وقع تحت طائلة الملاحقة والانتقام وشاء حظه العاثر من وراء سياسة الاضطهاد القومي ان يكون الضحية الاولى ومنذ الاسبوع الاول لنشوبها ان يتسلم امر الاقامة الاجبارية ، يحظر عليه مغادرة القرية الا بتصريح وانى  له ذلك؟  عملا بقانون الطوارئ لسنة 1945 . هز رأسه عندها وادرك وهو يتسلم امر الحظر واهتدى الى حل اللغز الذي ظل يحيّره طيلة اسبوع . عندما تغاضى ، وسكت الضابط "ابن اسحاق" الذي ترجل في حينه ووقف يرغي ويزبد ويتوعد بالويل والثبور للشيوعيين . ادرك ان تغاضيه لم يكن عبثا ،  تجلَّى وبان ما كان يضمره وراء تغاضيه ، وما كان يخبئه  وراء سكوته ، فحانت فرصة الثأر والانتقام .
عبرت الايام ومرت الاشهر وخلت سنة ونصف ، وهو يقبع عاكفا في البيت يرزح تحت ظلم الاقامة الاجبارية وغول البطالة ، نفد ما كان قد ادَّخره من كده وما وفَّره من عمله ، اخرج كل (ما في الجرة وطال ما تحت
البلاطة ) تدنت الحالة وساءت، ضاقت النفس ، وضاقت سبل العيش ، ودارت الايام وعضه الزمان ، وتحولت الحياة من بحبوحة الى عوز واملاق . اشتد الحصار واشتدت المعاناة لم يخنع ولم يخضع لم يحن هامته او يركع . وظل نموذجا في الصمود والإباء . حارب اليأس وثار على  القنوط انتفض وتمرد ، شاطرته زوجته همه وقاسمته غمه ، شدت أزره فاشتد عضده وضعت يدها بيده يحطمان القيد ويكسران الهموم  بحث عن منفذ يخرج منه من محنته فاختار ان يكون فلاحا . وهو لا يفقه من الفلاحة شيئا ولكن كل من جد وجد. اختمرت الخمار وخرجت الى الحقل وارتدت الملابس الطويلة التي تقيها حر الشمس واشواك الطريق والحقل انتعلت جزمة العمال اتقاء من لسعات نبات "العَقول"  ولدغات " الينبوت" عصماء تأبطت بالفأس وحمل هو المنكوش وسارا جنبا بجنب في الطريق بين الفلاحين . الطريق الى البطوف شاقة وعسيرة تبعثرت فيها الحجارة ، واعترضت الصخور والرواهص، وكثرت العوائق من عتبات ودرجات من الصخور من الحفر والثغور من اشجار السدر والعوسج الشائك والقندول تعثرت فيها البهائم وتباطأت وتثاقلت تحت راكبيها استمعوا الى حديث الفلاحين وشاركوهم معاناتهم واستمعوا الى احاديثهم  وخالفوهم في بعض الاحيان  رايهم آمن الفلاح بمقولة "ان الاسعار  والاعمار بيد الله " يناجي السماء في السراء والضراء، ان اقحلت الارض او اخصبت ان هلكت الزراعة من الآفات او سلمت.  فرد على اعتقادهم ولم يبخل برده قد تكون الاعمار كذلك اما الاسعار فهي منوطة بقانون  العرض والطلب قارعهم الحجة بالحجة معتمدا على حديثين شريفين "اعقل وتوكل للرسول "صلعم"  "واجعل مع دعائك قليلا من القطران " (للصحابي عمر بن الخطاب " ر" بناء عليهما كان يحثهما على رش المبيدات والصرف والانفاق على الزراعة وعدم الاكتفاء بالتوكل على الله والحظ وحدهما . كان الزوج منهمكا في الشرح والنقاش وكانت هي تتخطى مع مرافقتها الصخور والفجوات والاشواك شأفت رجلاها ، وتقيحت وتورمت يداها تطلع الناس اليها باعجاب واستهجان  ولكن في تساؤل . افلحا في فلاحة زرع البطيخ والشمام والبندورة الصناعية والبصل ونجحا ودر عليهما الموسم وعاد بريع لا بأس به كان المخرج له من محنته وضائقته صار حديث الناس في نجاحه ونموذجا حسنا للفلاحين . ومن بلاهته وجهالته في الزراعة مر عليه احد الفلاحين وهو يعتني بمزرعة البصل التي نمت واستطالت خضراء غضراء ، وكان جذلا فرحا بنجاحها ونموها ، واول الغيث قطر . وكان الرجل من الحساد والغشاشين فلم يرق له ذلك النجاح والنمو ، فاوعز له وهو فلاح مخضرم ذو تجربة ودراية في الفلاحة والزراعة . ان يرش نبات البصل بمادة "السولر والكاز " اتقاء من الآفات الزراعية وكان قد حان وقت تسويقها فعمل بما "ارشده " ذلك اللعين الخبيث فهلك وتحرَّق المحصول فتعلم درسا جديدا في الحياة .
لم تكتف السلطات بمقاومته ، في ممارساتها القمعية الجسدية والحياتية فراحت تحاربه وتلاحقه اجتماعيا ، ببث الدعايات المسيئة الممجوجة والمسمومة عن طريق الاعوان والعملاء رغم طول معاناته يصمونه بالخيانة ويلصقون به تهمة العمالة . وذات يوم دخل احد الدواوين في غمرة الاحباط واليأس لمزاولة نشاطه في رفع المعنويات بين الجماهير في ظل وتحت كابوس الاقامة الاجبارية ، وحضهم للنهوض لمقاومة سياسة الحرب والعدوان ، ولنفض غبار الاحباط استرسل في شرحه واسهب لاذكاء وايقاد المعنويات فبادره صاحب الديوان وكاشفه وجاهره وببساطة الانسان الساذج وقذفه بتهمة العمالة للسلطات وان ما يقوم به من نشاط هو للتغطية . وقع عليه كلام الرجل وقع الصاعقة اطرق وتصبب العرق من جبينه وشعر بالضيق والحرج ، واحتبس النَّفَس في الصدر . تململ احد الرجال في الديوان لم يرق  له ما سمعه من كلام يصم الآذان . انبرى دفاعا عن ذلك الشيوعي العريق افحم في حديثه صاحب الديوان واحرجه فما كان منه الا ان صحح جلسته واسند ظهره للحائط وقال " جازاهم الله اولاد الحرام " قام وتأسف واعتذر للرفيق ابراهيم شمشوم على ما تفوه به ظلما وعدوانا . نهضنا وأكملنا المشوار ودخلنا دواوين اخرى . مرت الايام العجاف تعافى من محنته وخرج من ضائقته وظل راسخ القدمين لم تثنه الاقامة الاجبارية ولم تطوه المحن ولم يخنع ولم يخضع ولم يركع لم يطاطئ رأسه ولم يحن هامته للجلادين فلم يزده العنف لا عنفوانا وظل شامخا معتزا بكرامته ساهرا على عائلته فخورا بعزيمته مدافعا عن حريته متفانيا لحزبه وشعبه ، امد الله في عمره .


(عرابة)

عمر سعدي*
الخميس 17/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع