حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (14)



*في تلك الفترة التي كان معنا بها الرفيق توفيق زياد والذي كان مسجونا لمدة ستة اشهر، كان هو الذي يعطينا البيانات السياسية وكذلك محاضرات نظرية. وكنا نحيي المناسبات النضالية في داخل السجن مثل ميلاد لينين وثورة اكتوبر وأول أيار، وكنا منظمين بشكل جيد داخل السجن، وكانت العلاقات بيننا جميعا علاقات رفاقية جيدة جدا وكان في نفس الغرفة ايضا الرفيق ابراهيم عبد الهادي "ابو محمد" من اكسال وكان هذا الرفيق طيبا جدا وفنانا يجيد العزف على الربابة، وقد صنع ربابة في داخل السجن وكان صوته حنونا جدا وكان يغني الاغاني الجميلة*

 

بعد قيام الثورة العراقية بفترة قصيرة وقع خلاف بين القيادة العراقية الجديدة والرئيس جمال عبد الناصر حول الموقف من الوحدة وعلى اثرها ايضا جرى خلاف مع الاحزاب الشيوعية في العراق وسوريا ومصر. فقد استغلت هذا الخلاف القوى الرجعية وقوى الاستعمار وحكام اسرائيل لصالحهم ومن اجل التحريض على الحزب الشيوعي بين الجماهير العربية. و كان لنا، نحن في داخل السجن، نقاشات جدية مع بعض الشباب العرب حول موضوع الخلاف هذا، وبعد فترة كنا قد انتقلنا نحن الذين تواجدنا في سجن الرملة المركزي بعد مصادمات مع سجناء يهود عنصريين الى سجن الدامون حيث تواجدت هناك الاكثرية المطلقة من الرفاق والاصدقاء الذين حوكموا على أحداث ايار. وعندما وصلنا الى سجن الدامون كان مدير السجن في ذلك الوقت يُدعى شاحر، ويعرف اللغة العربية جيدا. وخلال قراءته لملفي رأى انني محكموم لمدة اربع سنوات فقال: ما هذا هل قتلت قتيلا حتى تحكم بهذه المدة فأجبته: "لا لم اقتل قتيلا بل فقط كنت ذاهبا الى مدينة الناصرة من اجل التظاهر في اول ايار ولم استطع الوصول الى هناك"، عندها عرف انني احد سجناء اول ايار، وهناك في سجن الدامون وضعوني في غرفة الشباب التي تتسع لحوالي اربعين شابا واكثريتهم المطلقة شباب عرب من الذين كانوا قد تخطوا الحدود الى مختلف الدول العربية وأعادوهم من هناك.
وخلال تواجدي معهم بنيت علاقات جيدة مع اكثريتهم وما زالت تربطني علاقات صداقة مع بعضهم حتى اليوم، ولكن بعد مضي شهر او اكثر قليلا نقلت الى الغرفة التي تواجد فيها سجناء اول ايار، بعدها طلبت مقابلة مدير السجن. وخلال مقابلتي له طلبت ان ابقى في غرفة الشباب لانني مرتاح هناك ولا اريد ان انتقل الى غرفة اخرى، فأجابني المدير: انت مرتاح يا توفيق ولكن نحن غير مرتاحين لوجودك بينهم، فهناك مع رفاقك افضل لك ولنا وتستطيع ان تتحدث كيفما تريد. في الغرفة التي نقلت اليها كان طيبو الذكر الرفاق توفيق زياد ومحمود الحصري "ابو العفو" ومحمد عبد الله ابو نمر "ابو انور" وكذلك الرفاق أمد الله في اعمارهم ابراهيم الحصري ومصطفى عسلية وتوفيق الحصري والجميع من ام الفحم، والبير عاقلة وشوقي مزبر من الناصرة، وابراهيم عبد الهادي وعرسان قيسي وعدد اخر من الرفاق والاصدقاء. في هذه الفترة التي كان معنا بها الرفيق توفيق زياد والذي كان مسجونا لمدة ستة اشهر، كان هو الذي يعطينا البيانات السياسية وكذلك محاضرات نظرية. وكنا نحيي المناسبات النضالية في داخل السجن مثل ميلاد لينين وثورة اكتوبر وأول أيار، وكنا منظمين بشكل جيد داخل السجن، وكانت العلاقات بيننا جميعا علاقات رفاقية جيدة جدا وكان في نفس الغرفة ايضا الرفيق ابراهيم عبد الهادي "ابو محمد" من اكسال وكان هذا الرفيق طيب جدا وفنانا وكان يجيد العزف على الربابة وقد صنع ربابة في داخل السجن وكان صوته حنونا جدا وكان يغني بعض الاغاني الجميلة. وفي قصيدة توفيق زياد بعنوان "سمر في السجن" يتحدث فيها عن ربابة ابراهيم.
اما الرفيق محمد شريدي فكانوا قد نقلوه الى سجن شطة وبعده بفترة نقلوا ايضا محمد خالد محاميد الى سجن شطة ايضا وبعدها الى الجلمة. عندما نقلت الى سجن الدامون سألوني ماذا تعمل؟ فقلت لهم نجار. وعلى هذا الاساس ذهبت للعمل في المنجرة الموجودة داخل السجن وكان المعلم الذي يعلم السجناء مهنة النجارة شخصا من سكان نهريا وكان انسانا طيبا، وخلال فترة الانتخابات التي جرت في سنة 1959 توجهت له من اجل التصويت للحزب الشيوعي ووعدني بصدق انه سوف يصوت للحزب الشيوعي ولكن الشاويش الذي كان مسؤولا عن المنجرة كنت ايضا قد توجهت له من اجل التصويت للحزب فقال لي "لا لا يا توفيق انت تريد ان تخرب بيتي"، والاثنان كانا يهود، وكانت تربطني معهم علاقات طيبة. مرة، خلال عملي في المنجرة واذا بمدير السجن يدخل الى المنجرة ومعه شخص اخر عرفت فيما بعد انه مدير المخابرات في منطقة حيفا. ناداني مدير السجن باسمي فرديت عليه بـ "أيوه" وكان هدف مناداته لي كي يعرّف مدير المخابرات بي، وبعد خروجهم سألني السجناء "كيف ترد عليه بهذه الصورة" فقلت لهم "اذا كيف الرد؟" فقالوا ان المتبع في السجن هو الاجابة "نعم سيدي" فأجبتهم انني لم أعي اي سيد (جَدّ) من اسيادي ولذلك لم أقلها ولا يمكن ان اقولها لأحد غيرهما. وأذكر حادثة مع الرفيق توفيق زياد ايضا عندما كنا عائدين من العمل الى غرفنا فكان احد السجنانين يقرأ اسماء السجناء وعندما قرأ اسم توفيق زياد اجابه "أيوه" فرد هذا السجان على توفيق بقوله له: "أيوه في راسك، أجب بشكل جيد"، فأجابه توفيق زياد: "بل في راسك، انت الذي لا تفهم اللغة العربية واذا كنت لا تفهمها فتعال لأعلمك اللغة العربية بشكل جيد" عندها سكت هذا السجان واستمر في عمله.
وخلال تواجدنا في السجن كما ذكرت سابقا عن الخلافات مع الزعيم جمال عبد الناصر والقيادة العراقية والاحزاب الشيوعية كنا قد تلقينا التوجيه حول كيفية النقاش في هذا الموضوع مع السجناء العرب من قبل الرفيق توفيق زياد بشكل خاص وبعده من الرفيق محمود الحصري. وكانا قد وجهاني لبناء العلاقة مع غرفة كان فيها عدد من السجناء المتدينين وكان من بينهم شيخ من قرية صندلة وهو مسجون بسبب تخطيه الحدود الى شرق الاردن. وكما حدثني، فقد كان في سجن الجفر في الاردن مع الشيوعيين الاردنيين هناك ومن بينهم ذكر لي اسماء معروفة كعيسى مدينات ويعقوب زيادين، وبعد عدة نقاشات بيني وبينه، قال لي "هات يدك" وضع يده في يدي وقال "أعاهدك الله ورسوله ثلاث مرات بأني لن أصوت الا للحزب الشيوعي على مدى حياتي" ففرحت جدا بهذا العهد وقلت له: لا اريد اكثر منك يا شيخ. وهكذا توطدت علاقات طيبة معه ومع عدد كبير من الشباب داخل السجن وأصبح قسم منهم اعضاء في الحزب الشيوعي.
كان الرفاق جميعا في داخل السجن يعملون بشكل دائم من اجل بناء العلاقات الطيبة مع السجناء العرب بشكل خاص لأن اغلبيتهم لم يكونوا محكومين على جنايات مشينة، بل الاكثرية المطلقة مسجونون على انهم تخطوا الحدود الى احدى الدول العربية المجاورة، وهذا عمليا ناتج عن يأس من الاوضاع التي كانوا يعيشوها فرأوا ان تخطي الحدود هو الحل. وكنا نتحدث معهم عن ان مثل هذه المواقف ليست الحل وهي غير صحيحة ومن الضروري البقاء في الوطن مهما كانت الظروف الصعبة التي نعيشها جميعا كجماهير عربية في هذه البلاد، وليس الهروب، لأن السلطة لا تريدنا أن نبقى في هذا الوطن.
هناك رفيق من الرفاق الاساسيين في ذلك الوقت لم اتحدث عنه في البداية لانه لم يتواجد معنا الا بضعة ايام في سجن الدامون وبعدها عزلوه لوحده الى سجن شطة، وهو الرفيق محمد الشريدي "ابو سامي". وهذا الرفيق هو من اكثر الرفاق الذين مورست ضدهم الاستفزازات والمضايقات. وقد تعرفت عليه في داخل السجن ايضًا في تلك الفترة، ولكن كنت قبل ذلك اسمع واقرأ عنه في جريدة "الاتحاد" وعن مواقفه الجريئة ضد السلطة ونظام الحكم العسكري ونتيجة لذلك دخل السجن عدة مرات قبل احداث اول ايار نتيجة لنضاله ومواقفه الثابتة والجريئة الى جانب مصالح العمال والفلاحين في ام الفحم ومنطقة المثلث. ولكن معرفتي به عن قرب وبشكل واسع كانت بعد خروجنا الاثنين من السجن بعدة سنوات عندما تفرغت للعمل الحزبي في اواسط الستينيات، فمن خلال عملي هذا في الحزب كنت في سنوات معينة اتردد على منطقة المثلث وزادت معرفتي وثقتي به اكثر وكذلك عملنا معا في حركة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي وكان من النشيطين جدا في هذا المجال. كذلك عندما عملت مديرا لجريدة "الاتحاد" في اوائل التسعينيات من القرن الماضي كان احد الرفاق المثابرين في توزيع جريدة "الاتحاد" في ام الفحم وكان من الرفاق النشيطين في مختلف مجالات العمل الحزبي. انني اعتبر الرفيق محمد شريدي احد ابطال شعبنا لانه كان دائما في خطوط المواجهة الامامية مع سلطات الحكم العسكري وكان مبدئيا ومثابرا في مواقفه حتى الايام الاخيرة من عمره وكان يعتبر وبحق حجر الاساس للحزب الشيوعي في ام الفحم ومنطقتها في ذلك الوقت، ولذلك عملتْ السلطات بكل الاساليب القذرة بغية كسره وثنيه عن مواقفه المثابرة والمبدئية ولكنه في كل مرة كان يخرج اقوى واصلب عودا.
بعد نقله الى سجن شطة بفترة اي في تاريخ 17\3\1959 استدعاه مدير السجن الى مكتبه، وتواجد هناك مع مدير السجن شخص اخر عرف نفسه انه "رفائيل غرايل" من ال ش.ب، وقال للرفيق محمد شريدي انه يريد مصلحته فهو يعلم انه عانى الكثير في السنوات العشر الاخيرة اي منذ ان اصبح شيوعيا وعلى هذا الاساس تقترح عليه السلطات ان يرجع عن طريقه هذا طريق الحزب الشيوعي ويعلن انسحابه منه وسيطلق سراحه حالا وستدفع له تعويضات جدية عن مدة سجنه ويعين في وظيفة دائمة. وقال له ايضا ان السلطات تعرف انه قد رفض مثل هذا الاقتراح في الماضي ولكن سبب الرفض هو تأييد الاهل للحزب الشيوعي في ام الفحم وثقتهم بالرفيق محمد شريدي، ولكن الشيوعيين على زعم ممثل ال ش.ب قد فقدوا نفوذهم الان بعد حملات عبد الناصر على الشيوعيين ولذلك "تستطيع ان تترك الحزب دون خشية الرأي العام لانه سوف لا يلومك أحد على ذلك"، واضاف ممثل ال ش.ب مهددا الرفيق محمد شريدي بأنه "اذا لم تقبل بهذا الاقتراح فان السلطات ستتهمه بالتجسس لصالح دولة اجنبية وتدبر له البقاء طيلة حياته في داخل السجن"، ولكن الرفيق رفض كل هذه الاغراءات والتهديدات واجابهم باحتقار انه انضم الى الحزب الشيوعي لانه يؤمن بمبادئه وطريقه الذي يضمن مصالح الشعب ومصالح العمال والفلاحين وسيستمر السير في هذا الطريق الذي اختاره. وكان قد احتج على هذه المحاولات السافلة التي تمارس ضده. ان هذا الرفيق كان مثال الشيوعي الصلب الذي لا يعرف التراجع بل السير الى الامام مهما كانت الصعوبات التي يواجهها.

(عرابة البطوف)
(يتبع)

توفيق كناعنة
السبت 19/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع