رسالتي إلى أبي في حفل تكريمه



ترددت قبل أن أقرر إلقاء أي كلمة في هذه الأمسية، فماذا يمكن أن تقول ابنة بحق أبٍ عظيم،  وكيف يمكن أن أفيه حقه، وأنا التي تملؤها مشاعر كبرياء وفخر ومحبة، أعظم بكثير من أن تتَرجَمَ إلى حبرٍ على ورق.

 

 لكن نفسي أبت عليّ إلا أن أكشف جانبًا خفيًا يجهله الكثيرون من جوانب الوالد، فهذا واجبي أن أفي أبي ولو القليل من حقه وأن  أسرُدَ لكم عن أبي العظيم في حياته العائلية.
هو الصديق قبل أن يكون الأب. منذ الصغر نشأتُ وأخويّ على علاقة صداقة متينة مع الوالد. لم يخالجنا يومًا شعورٌ بالرهبة التي يشعر بها العديد بحضور الآباء، بل هو شعور الصداقة العميقة حينما يجالس الواحد منا صديقه المقرّب ليطلعه على أخباره اليومية وشؤونه الصغيرة.

 

لقد ربّانا الوالد على المحبة والتآلف العائلي فهو الذي يبسط دومًا جناحيه فوقنا ليجمعنا تحت كنفه بروابط المحبة والصداقة. يردد لنا دومًا قوله "إنّ العائلة هي المأوى الأولُ والأخيرُ الذي يمكن للمرء أن يلقي بمكنونات قلبه في حضنه ويستريح". وبالفعل، فإنّ هذا الأب هو الميناء الوحيد الذي نستريح فيه ونشكو له همومًا أقلقتنا ونطلب مشورته في كل خطوة.

 

حب الوطن وحب الأرض واللغة والشعور بالانتماء وحب الناس جميعا، هي قيم رضعناها منذ الطفولة. فقد فتحنا عيوننا على النشاطات الاجتماعية والوطنية والثقافية في حيفا وخارجها، من مظاهرات تضامنية ومساعدات اجتماعية والدفاع عن الأوقاف والمقدسات الإسلامية والمسيحية والمشاركة في شتى الفعاليات الوطنية. نهلنا منه الكرامةَ والشموخ والإباء، ونهلنا منه الفخر والاعتزاز لكوننا أبناءَ هذا الوطن، فهو الذي يؤكد لنا دائمًا أن تراب الوطن أسمى من أن يُترَكَ وحيدًا.

 

كان وما زال معطاءً، محبًا لغيره كبيرًا كان أم صغيرًا، يعطي دون كلل، يساعد الآخرين دونما سؤال، يقدّس الصداقات، ينبذ العنصرية، يحترم الآخرين.. كل هذه الصفات والقيم هي ثروة قدّمها لنا الوالد، فبها نمضي قُدُمًا في حياتنا، دائمًا أمام أعيننا، نعيش ونهتدي بها، علّنا نرفع اسمه عاليًا على أمل أن نجعله فخورًا بنا دومًا.

 

إن الوالد يعطينا يوميًا، ودون أن يدري، الشعور بالفخر والاعتزاز لكوننا أبناءه، فلا أروع من هذا الشعور حينما نتعرف أيّ شخص في أي مكان، فنُسأل السؤالَ المعهود: "هل أنت كريمة الأستاذ فتحي فوراني؟" أو " أأنت نجل ذلك الكبير؟". في تلك اللحظات ندرك كم نحن محظوظون لكوننا نحمل اسمه، ونشعر بالمسؤولية العظيمة التي نحملها وبواجبنا  في المحافظة على هذا الاسم الكريم الذي نذر حياته في بنائه والمحافظة عليه، أطال الله في عمره.

 

عشقُ اللغة العربية هو أجملُ ما أعطاني وأطيب ما زرعه في وجداني.  نهلت منه هذا العشق منذ طفولتي، وحتى يومنا هذا يشجعني على القراءة والكتابة أيضًا. وهكذا أصبحت من متيّمي هذه اللغة. جعلني أفتخرُ بكوني عربيةً أتكلم لغتي وأحبها، ويوصيني بصيانتها والمحافظة عليها، فكما يقول: "كرامتنا من كرامة لغتنا، وكرامة لغتنا من كرامتنا.  اللغة العربية  من مكونات هُويتنا القومية، فصونوا هذه الجوهرة".

 

يؤكد لنا دائمًا أن حدودَ السماء هي حدودُنا في الحياة، ولنعمل ولنطمح للعطاء في أي مجال حتى الوصول إلى مرادنا وهدفنا، مهما كان صعبًا. فمنه تشرَبنا القوة والعزم والإصرار، نحمل العلمَ سلاحًا في دربنا نحو المراد كما يوصينا.

 

لن أنسى المقولة المشهورة، "وراء كل رجل عظيم امرأة"، ولن أنسى أن أفي أمي  أيضًا بعضًا من حقها، وأن أذكر دورها في دعم والدي والوقوف إلى جانبه، خاصة في فترة انتكاسته الصحية، التي كان فيها محتاجًا إلى كل دعمٍ وسند. ولن أنسى  بهذه المناسبة أن أشكر الله على شفاء والدي، وهبه الله العمر المديد والصحة والعافية والقوة والإرادة بعد أن اجتاز أزمة صحية لم تكن بالسهلة، لكنه استطاع بعدها أن يقف شامخًا كطير الرماد وأن يعود إلى حياته الطبيعية المعتادة بقوة وثبات وعزم.

 

يردد لنا دائمًا: " قصيرة هي الحياة، فاعملوا أعمالاً تخلف وراءها اسمكم عاليًا، فتفخروا به ذات يوم". أنا آمل أنني وأخويّ قد نجحنا حتى الآن برفع اسمك عاليًا وأننا قد استطعنا أن نجعلك فخورًا بنا رافعًا رأسك. أطال الله عمرك، وأبقاكَ لنا جميعًا نجمةً تهدينا في طريق الحياة.


(كلمة رنا فوراني ابنة الأستاذ فتحي فوراني في حفل التكريم 20-3-2008)

رنا فتحي فوراني
السبت 19/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع