ذكرياتي مع حبرِكَ الجريء.. فتحتْ عَينيَّ على رؤى جديدة..



مساءٌ تعبق فيه الذّكريات، عبق البخور في الصّلوات
هي الذّكرياتُ زادُ الأيّامِ .. هناك أناسٌ تحيا معهم ذكرى صداقةٍ، وآخرون ذكرى زمالةٍ .. وغيرهُم ذكرى مواقفَ جميلةٍ أو صعبةٍ .. وكلُّها ذكرياتٌ تغدو خواطرَ وقصصًا نرشفُ منها، عِبرةً نبيذيّةً مُخمّرةً أو نذرف فوقها عَبْرةً تغسلُ الأحزانَ ..

**

ذكرياتُنا مع البشرِ عاديّةٌ، أمّا ذكرياتُنا مع الحبر فلا يقوى عليها النسيانُ .. وذكرياتي مَعَكَ أستاذي العزيز .. ذكرياتٌ مع حِبْرِكَ، مع نصوصٍ مميّزةٍ خَرَجَت من عبقِ التاريخ وفاحت ثقافةً وأصالةً، عطّرتِ الجوَّ بدعابةٍ طريفةٍ وسخريةٍ لاذعةٍ ..

**


عندما تلامس كلماتُكَ الصفحاتِ ينسابُ الحبرُ رقراقًا يشدو شِعرًا يتدلّل كفاطمَ دون تمهُّلٍ، لكنّه لا يُزْمِعُ صرمَنا عارفًا أنّنا أحْبَبْنا انسياب معانيه فمهما يأمر حبرُك  القلبَ يفعلْ.
 

**


ذكرياتي مع حبرٍ .. عرَّفني بإنسانٍ ينبض الوطنُ في عروقِهِ يتغلغَلُ كهواءِ "صفدَ" منبعِ العائلةِ، يجري متدفّقًا مِن أزقّةِ "الناصرةِ"، متوضّئًا بمياهِ عين العذراء مُصلّيًا في الجامع الأبيض جارفًا تاريخَ شعبٍ، لمَصَبٍّ في المتوسط ..
حاضنًا حيفا القديمة رمزًا للوطن الأكبر .. خائفًا أنْ تفلتَ مِن أحضانِهِ فَيَسْحَبَها عُبابُ البحرِ، نحو شواطئ اللا عودة .. ناسجًا لها "وثيقةً" من صوفٍ يُدثّرها بها كلّما آلمها بردُ النَّهب.
 

**


ذكرياتي مع حبرٍ .. عَرَّفَني برائدٍ في الجرأةِ .. غيورٍ على لغتِهِ ينتشلُ قواعدَها من بئرِ الدؤلي وسيبويه، ويرشُّها رذاذًا يُنعِشُ طلاّبنا .. يطلقها "أقواسَ" لغةٍ تُصيب بسهام كلماتِها صميمَ الصوابِ.
 

**


ذكرياتي مع حبرٍ .. تَرَكَ الجاحظَ كاتبًا لنا رسالةً عن المعلم .. مُسَلّمًا "فتحي" مقاليدَ رسالةِ المعلّم .. ليمحو أستاذنا الكبيرُ بصبرِهِ وبتسامحِهِ وبمعرفتِهِ الجمّة ، النعوتَ التي رقَعَت ثوبَ المعلّمِ، ويُحيكُ بأدبِهِ نصوصًا ساخرةً جديدةً لا تتّكئُ على الماضي معترفَةً بصعوبةِ قيامِها بذاتها .. إنّما نصوصٌ تتكئُ على الماضي لتوصلِه بالحاضر، لتوحّدَ تراثًا لأمّةٍ أصبح الماضي البعيدَ مجدَها التليد .. وهذا الاستحضار والتناص الذي يفعله أستاذ فتحي فوراني، يُحيي القديمَ، يطوّرُهُ ليتماشى مع عصرنا مُتثبتًا أنَّ لغَتَنا نابضةٌ حيّةٌ أبدًا

**


ذكرياتي مع حبرٍ .. أخذَنا نحو "زمن الوصل في الأندلس"، مزهوًّا في "وادي الغضا" متثنيًا مع ملكِ الجمال .. ناثرًا ناظمًا المقامات على وقع بغداد الآيلة للسقوط .. ناقدًا المجتمعَ ليمسَحَهُ كَيَدِ المسيحِ، فيقومَ من رقدتِهِ التي أفقدَتْهُ الحياة.

**


ذكرياتي مع حبرِكَ الجريء، الصادِقِ، المنسابِ، الساخرِ الناقدِ، المعبَّأ ذخيرةً لُغويَّة تُطلق رصاصَها على عيوبِ مجتمعنا .. ذكرياتٌ فتحتْ عَينيَّ على رؤى جديدة..
 

**


ذكرياتي مع حبرِكَ تحوّلت طوفانَ محبّةٍ أغرقَني بعد أن تعرَّفْتُ إلى شخصِكَ الكريم .. المتواضع المتواصل المعطاء .. فلمحتُ في يديك ريشًا أبيض يرفرف .. وبين كلماتك غُصْنَ الزيتون يُعلِن رُسوَّ سفينة العطاء عند شواطئ حيفا .. فكما تخفق الخلجان  هناك .. يخفق قلبي تقديرًا واحترامًا لك.
                                                  

(ألقيت في الحفل التكريمي للأستاذ فتحي فوراني- في حيفا 20.3.08)

(أبو سنان)

راوية بربارة
السبت 19/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع