أوراق لم تعد شخصية
جمالية البؤس......!



*مقدمة لزاوية أهملتها:

ما زلت أومن بمقولة الناقد والباحث الفلسطيني فيصل دراج: على الكاتب ان يصمت أحيانا.
التزمت الصمت الكتابي لأنني لم أرد أن أجتر نفسي،ولأنني لا أريد في هذا الجيل أن أبدو سخيفا، وكل منا في يوم من الأيام سيكتشف سخافة أوسخافات اقترفها في حياته في مجالات حياتية، كتابية أو غير كتابية.وكنت أواجه قراء واكبوا زاويتي هذه التي أهملتها، وهم يطرحون علي السؤال: لماذا انقطعت عن الكتابة؟ جوابي كان: ليس عندي شيئا جديدا أقوله. والآن ، على ما يبدو عندي ما أقوله....ولهذا السبب عدت.

 

حول إلي الزميل زياد خداش حنينه إلى الماضي، والى محتوياته المادية والروحية، المنشور في جريدة الأيام، حوله بواسطة البريد الالكتروني، وأجبته حالا، عند انتهائي من قراءتي، أنني تمتعت بالتلصص إلى حنينه.
ابتسمت، ثم علت ضحكة متواضعة، وساخرة بعض الشيء، وقلت بصمتي: ها نحن نتحدث عن الماضي بمحتوياته بواسطة الميل، والحاسوب هو طريقة التواصل المتناقضة مع الماضي...وسألت: متى يلجأ الإنسان إلى لحظات تبدو لنا الآن أنها جميلة، ولم نشعر بجمالها وجماليتها في حينه؟ جميلة رغم البؤس الذي كان، هل نحن إلى ذلك البؤس اليوم؟

 

بالطبع أنا لا أنتقد زيادا على عودته إلى الماضي، ولكنني أطرح أسئلة، تبدو أنها أسئلة وجودية، وطرح الأسئلة يدل أحيانا على إشكالية في تعاملنا الدائم مع المكان والزمان...وطرح الأسئلة، التي تبدو لنا أنها وجودية، يدل على أزمة، أزمتنا مع الزمان المتغير، والمكان الثابت، إذا حافظنا على ثباتنا فيه....
على ما يبدو أن معظم ردي على الزميل زياد، سيتكون من أسئلة، ولا أتوخى أن أجد إجابات شافية، ولا أنوي أن أفلسف القضية.

 

سؤال آخر ينسل من ذهني الآن: وهل البؤس الذي يعيشه الطفل الفلسطيني في هذه الأيام سيبدو جميلا له عندما يكبر، وعندما سيصل إلى جيل الأربعين أو الخمسين؟ سؤالي هذا يدل على تشاؤم مرضي، رافقني منذ سنة 1948 ، ولأكن دقيقا في حساباتي للزمن، رافقني منذ أن بدأت أعي البؤس الذي كنت فيه أنا وأقراني.

 

عندما ينادينا الماضي، وتنادينا محتوياته، يتحرك فينا الشعور بالفقدان، ونحن إلى ما فقدناه، وعلى ما يبدو أن زيادا يشعر بفقدان الطيبة التي كانت، أو السذاجة التي غذت العفوية الإنسانية. وسنجد من يقول لنا في هذا الصدد: الطيبة والسذاجة هما سبب بؤس اليوم.

 

في تلك الأيام، في أيام الطيبة والسذاجة، التزم الفرد أمام المجموعة، والمجموعة حاولت أن تحميه من خلال تقاليد ومعتقدات نرفضها اليوم، نحن الذين نحن إلى الماضي...هل تعي يا زياد التناقض الذي يهلك داخلنا؟ أستطيع أن أحكي لك مئات القصص عن أناس حاولوا أن يحتفظوا بطيبتهم التي أنهكتهم، وكفروا بالناس وبالوطن أيضا...وهل ألعن طيبة وسذاجة أبي وكل آباء أبناء جيلي الذين عايشوا النكبة؟
أما بالنسبة لي فأحيانا أعود إلى الماضي بأسلوب السخرية، والسخرية أحيانا تكون بمثابة علاج مؤقت نلجأ إليه.

 

دعيت أكثر من مرة لأتكلم عن النكبة أمام يهود وأجانب، فاخترت أسلوب الحكاية الشخصية، بدلا من أن اسبب الضجر لمستمعي بأرقام وأحداث تاريخية، كان من الممكن أن ينقضوها برواية يؤمنون بها، أو برواية سمعوها أو قرأوها في مصدر ما.
رحلت يا زياد مع عائلتي من يافا سنة 1948 وكان عمري لا يتجاوز الثلاثين يوما، إلى قرية الطيبة، التي كانت طيبة فعلا، إلى أن أنهكها الخراب الاجتماعي، والناس يحنون إلى طيبة البؤس الذي كان، وجماليته....أسكننا خالي في بيت من طين، مكون من عدة "عقودة" المفتوحة على بعضها البعض...كبرت ووجدت نفسي في بيت يسكنه 13 نفرا، أخوتي وأخواتي من أمي، وأخواتي من زوجة أبي الأولى، كنت حينها ذلك الطفل المدلل، الذي لم يزعجه بيت الطين، إذ كان مسموح لي أن أرسم على حيطان بيت الطين، وكنت أغضب أختي الكبيرة ضاحكا، دون أن تعاقبني، عندما رسمت بالطبشورة على الأرض بعد انتهائها من مسحها...كبرت وبدأت أخاف من "الحيايا" التي كانت ترتع في سقف الطين، وفي جحور حيطانه الخارجية، فكنا عندما نشاهد حية، نركض دون أن يطلب منا أحد لننادي فرج الصعيدي، الذي حضر من الصعيد، مطعما ضد سم الحيايا، كنا نناديه " ليزقط" الحية، كان يعتلي السلم الخشبي، ويدخل يده المجردة إلى الجحر، يخرجها، ويضغط على رأسها ليخلع أنيابها، ويدخلها إلى عبه، ينزل، مبتعدين عنه، وتعطيه أمي عددا لا أذكره من بيض الدجاج، مقابل عمله البطولي في أعيننا، وسمعت في الفترة الأخيرة أن فرجا قرر العودة إلى الصعيد ليبحث عن أقربائه، فتركنا مع حيايا ألعن، ومات هناك.
كبرت وبدأت أحلم ببيت من اسمنت، كما حلم مروان في رواية " رجال في الشمس" للشهيد غسان كنفاني، وعلى ما يبدو أنني تعلقت بهذه الرواية منذ أن قرأتها لهذا السبب، وكانت أول عمل أعده وأخرجه عندما عدت إلى الوطن بعد دراستي في ألمانيا الشرقية آنذاك، وهذا هو حلم معظم الأطفال الفلسطينيين الذين عاشوا في الخيم وفي بيوت الطين.
في حكايتي أمام اليهود والأجانب، كنت أكرر نكتتين:

 

الأولى: عن أثر النكبة على حياة أبي الجنسية...بالطبع لم تكن لأبي غرفة خاصة به ليمارس تخيلاته، وليمارس حقه الطبيعي في ساعات الليل، كانت له ولأمي زاوية تفصلها عنا الخزانات، فكيف له أن يمارس ما أراد، وأن نسمع نحن الأطفال، ما لم يكن مسموحا لنا أن نسمعه. فكان ينتهز الفرصة في ساعات ما بعد العصر، عندما كنا نلعب في ساحة الدار، كنت أشاهده وهو يمسك بيد أمي ويدخلها إلى البيت ويغلق الباب...فهمت هذا المشهد بعد أن كبرت ولم أعد طفلا ساذجا...هل ترى كيف أثرت النكبة على حياة أبي الجنسية؟

 

الثانية:عن اكتشافي المبكر للموسيقى الكلاسيكية، وخصوصا أماديوس موتسارت وسيمفونيته الرائعة، والخفيفة على الأذن "موسيقى ليلية صغيرة".
في فصل الشتاء، وعندما كان يهطل المطر بغزارة، كان السقف يدلف، يدلف على أجساد 11 نفرا، ينامون مفترشين الأرض، لأن الأسرة كانت من حظوة السكان الأصليين لقرية الطيبة، وكان على أمي أن تحافظ على صحتنا، وأن تقينا دلف الشتاء، فكانت تضع صواني التوتيا، ست أوسبع على الأرض لكي تتلقف ماء الشتاء الذي يسقط من السقف، والذي كان يحدث أصواتا عند سقوطه، أصواتا منسجمة، وبإيقاعات ترسخت في احساسيي.. تا تتا... تتتتتتا...تا.. تي تتا... الخ...

 

التحقت بمدرسة ثانوية فيها أستاذ كان يحب الموسيقى الكلاسيكية، كان يسمعنا السيمفونيات المختلفة، وفي الصف التاسع تعرفت لأول مرة على موتسارت، وعندما سمعت سيمفونية" موسيقى ليلية صغيرة" صرخت: أنا أعرف هذه السيمفونية، سمعتها بأداء مختلف. سألني الأستاذ: كيف...؟ حكيت له الحكاية. ضحك وقال لي: سيصبح لك شأنا في عالم الفن...هل النكبة هي التي أوصلتني إلى الموسيقى الكلاسيكية في جيل مبكر؟

 

أنا أبتسم الآن... للماضي جمالية لا أحتاجها الآن. وأقول لنفسي: للحاضر أيضا جمالية، قاسية، ومؤلمة، وأحيانا نبحث بشكل مازوخي عن جمالية الألم... وللمستقبل جمالية علينا أن نعمل على إنشاء شروطها من أجل أبنائنا وأحفادنا.
سؤالي هو: هل للبؤس جمالية؟

رياض مصاروة
السبت 19/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع