قصّة قصيرة
"قطرَة ُ مَطـَر"



   نظرتُ إلى الأرض أبحث عن مكان أهطل فيه ، فقد قررتُ أن أكونَ متفردة في هطولي كي لا أتبدّد عبثا. أبصرتُ مجموعة من الأطفال يتقافزون حُفاةً فوق برك الماء، يطاردون كرة، ويُرددُونَ بفرح:"طاح المطر على الطين الله يسلّم فلسطين."
   ثمّ، أبصرتُ كهلا يجلس القرفصاء قريبا منهم يرقب الطيور الصغيرة البعيدة في السماء وهو يقول في سرّه:"متى تتلون أحلام البؤساء"؟!.
استقرت الكرة فوق أنفه، فصحا على أطفال هرعوا يقطفون عن وجنتيْهِ ثمار الصباح.

***

   عبرتُ بين الأزقة المُوحلة وتسمرتُ قرب غرفة طبيب نحيل يرتدي ثوب البرّ. نظر من النافذة ليراقب العصافير الصغيرة البعيدة وهو يحلم أن تحطّ ذات أمل على كتفه.ُ
  عاد من تيهه إلى المرأة العجوز التي انتهى لتوه من الكشف عن سبب أوجاع صدرها. راقب يديها بتوجس وهي تحاول فكّ صُرّة ِقماش حفنتْ منها ملء راحتها قطعا نقدية نحاسيّة صغيرة، صغيرة.. بعثرتها أمامه على المنضدة وعيناها تتوسلان أن يرضى بهذه الذبائح الشحيحة. تنهد الشاب وقال وقد تحشرج صوته في حلقه:" ضُبّي نقودك يمّا، الدنيا لسّة بخير."
   تدفقت أنهارٌ من الحنان في عروق المرأة. اقتربتْ من الشاب وحضنته. لفّتْ كتفيه بثوبها الخمري المُبرقش بالقطب الفلسطينية الكالحة، فأزهرَ اللوزُ على أشجار القلب.
  رحتُ أواصلُ رحلتي كأنني فراشة خرجت للتو من شرنقة...

***

   اقتربتْ فتاةٌ لتفتح نافذةً، فاقتربتُ منها. وسرعان ما عادت إلى الداخل وهي تسير بخطوات بطيئة فأدركتُ أنّها كفيفة. جلستْ قُرب المرأة المُسنّة تقول:" يمّا، أشتهي اليوم طبخة فريك."
  تحسستْ العجوز جيب معطفها. لم تعثرْ إلاّ على بضع ورقات نقدية والشهر ما زال في أوّله. لم تتأفف. ابتهلتْ: "إلهي، أعطنا خبزنا كفاف يومنا". هتفتْ بحنوّ لسَعْدَة: "تعالي نحصل على قسط من الراحة، وحين نستفيق ربّك يفرجها".
   عندما استيقظتْ من نومها عثرت على دجاجة في المطبخ فلم تشغل بالها بمصدر رزقها بل شرعت في إعداد الفريك. وهي منهمكة في عملها وصل ابنها فأخبرها أن أحد الرجال زار المستشفى، وفي يده بعض الدجاجات أتى بها للطبيب الذي استأصل الرصاصة من أحشائه دون أن يتوفر له ثمن العلاج، وحين رأى سعد في الرواق، رقّ قلبه وأعطاه دجاجة.
  حدقت الأم في السماء البعيدة. رأت عصافير كثيرة. احتضنتْ ابنها. أحاطتْ عنقه بضفيرة شعرها الشائب، فحطّ كروانٌ على سقف أحلامها.

***

   أخذتُ أتقافز بفرح كما العصافير الصغيرة في بيادرِ قمح ٍ، إلى أن رأيتُ امرأة عجوز تكاد بشرتها تكون كقشرة برتقالة جافة. كانت تقرفص بسكُون فوق الأرض. علتْ الهتافاتُ من حولها، كلّ يستنكر هدم منزلها ، أما هي فقد كانت تراقب الغبار الذي تراكم فوق شجرة الصبّار الشاهدة على هدم مأواها، عشّ أحلامها.
   دفنتْ هواجسها في الرمال وراحتْ تحلمُ براع ٍ يسوقُ قطيعَ آمالها إلى مرعى أخضر. تنهدتْ بحسرة وهي تتمنى ولو عَبْرَةً واحدة تجفف حُرقة قلبها. نظرتْ إلى فوق، تستجدي العونَ منَ السماءِ فلمحتْ عصافيرََ كثيرة، بعيدة، بعيدة. تنهدتْ بحُرقة وراحتْ تناجي نفسها: "آآآخ.. كيف تحطّ العصافير فوق طبق القلب إذا كانت الأرض غارقة في الطوفان..؟!".
   التقتْ نظراتنا. رقّ قلبي لحال ِهذي المرأة الشامخة كنخلة، الصامدة كشجرة زيتون في تربة خصبة. قررتُ أن أهبطَ إليها لأخففّ عنها خَلَّ تلك اللحظة. قفزتُ داخلَ مآقي عينيها وهناك بدأتُ أتضاعفُ برويّة.
  فجأة، أجهشتِ المرأةُ في البكاء....

http://www.geocities.com/ana_keyan

ريتا عودة
الثلاثاء 22/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع